fbpx
سلايدرمقالات

هشام النجار يكتب: لا تقلق إذا وصفك تكفيري بأنك من مرجئة العصر، لعل القدامى كانوا أناسا جيدين!

بين الحين والحين سآخذكم إلى ساحة نقاش هادئ بعيدًا عن صخب السياسة وسخونة الأحداث والمستجدات في الشرق الأوسط والعالم، لكنه نقاش ليس منفصلًا عن الأحداث إنما متصل بها بشكل وثيق حيث يشتبك مع خلفياتها الفكرية والعقائدية، محاولًا طرح إضافة نوعية تكثف الضوء على ما أراه محتاجًا لإضاءة واستحضار ليساعد في إثراء التصورات وفي المعركة في مواجهة المناهج التكفيرية والطائفية والظلامية.

أعيدوا من جديد قراءة تغريدات قادة جماعات التكفير الهاربين وبعض قادة الإخوان الإرهابية، ستلحظون أمرًا لا ينتبه لأهميته ومغزاه الكثيرون؛ حيث كثيرًا ما يصف قادة تلك الجماعات الضالة مخالفيهم في الفكر وفي فهم وتفسير المستجدات والوقائع على الساحة السياسية بأنهم (مرجئة العصر)! ويكأنها سُبة أو تهمة شنيعة.

مبدئيًا ينبغي أن يثير هذا التوصيف الفضول لمعرفة هذا التيار الذي يكرهه التكفيريون والإخوان ويجمعون بينه وبين مخالفيهم المعاصرين من ليبراليين وعلمانيين ومتدينين طبيعيين غير مؤدلجين ولا تنظيميين ومواطنين طيبين في سلة واحدة، كما ينبغي أن نتساءل من هم المرجئة وما هو الإرجاء، وماذا يتضمن هذا التيار وتلك المدرسة الفكرية من أفكار تقدمية تزعج وتخيف المتطرفين والتكفيريين، وهل لنا اليوم أن نستفيد من تلك المدرسة الكلامية القديمة وتنفعنا بعض رؤاهم وتصوراتهم في مجابهتنا ومعركتنا الممتدة مع جماعات التكفير الضالة؟

فكرة متقدمة تنزع المشروعية عن تيار الإسلام السياسي:

ظهرت المرجئة في فترة الفتنة بين المسلمين، حيث شهد القرن الأول ظهور مجموعة من الفرق تطرفت في حكمها على غيرها كالشيعة والخوارج والسنة، حيث احتكرت كل فرقة الإسلام وادعت تمثيله وحدها، ومن هذا المنطلق حصل الاقتتال بين السنة والشيعة ورفع الخوارج سيوفهم على الفرقتين.

والإرجاء من جهة العقيدة يقلل من قيمة العمل في التأثير على إيمان الإنسان حيث تكفيه الشهادتان ليكون مؤمنًا حقًا.

ومن جهة السياسة وجدت هذه الفرقة حلًا وسطًا في ظل الخلاف المحتدم بين أطراف متنازعة على السلطة من المسلمين؛ عندما قالوا إن عليًا ابن أبي طالب لا يضره عمله وأيضًا معاوية بن أبي سفيان ويحق لهما تولي السلطة والترشح للخلافة كل في أرضه (معاوية في الشام وعلي ومن معه في الكوفة والعراق)، أما الحكم الفصل في الخلاف بينهما فيتم تأجيله و(إرجاؤه) إلى الآخرة ليتولى الله الحكم فيه.

ويُعد تصور المُرجئة الفكري وطرحهم الحيادي فكرة متقدمة تدعم الحرية الفردية ولا تشترط إنتماء الفرد لأي فرقة تزعم أنها تمثل الدين الصحيح؛ خاصة في أوقات الأزمات والفتن والصراعات حيث يشيع التكفير والتكفير المضاد ولا يكاد أحد في هذا المناخ من الاستقطاب السياسي والشحن الديني يعرف من هو المسلم الحقيقي، لذلك كان المَخرج ولا يزال هو تأجيل الحكم والفصل في أمر العقيدة والدين والإيمان وترك أمره لله وحده ليفصل فيه ويحكم في الآخرة وفقًا للفهم الصحيح والمنطقي للآيات القرآنية.

يتسق هذا الفهم مع الرؤية الصحيحة المعمقة للنص القرآني حيث كانت هناك فتنة أمر الإسلام بإنهائها ولو بالقتال ليتوحد العالم وتتوحد المجتمعات وتُنهى فتنة الاستبداد الديني، وكان ذلك واضحًا من كلام عبد الله بن عمر حيث روى أنه “أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: ألم يقل الله “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة”؟ فقال عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: “قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله”!

ما يقصده الصحابي عبد الله ابن عمر أن الإمبراطور والحاكم في الزمن القديم قبل الإسلام كان في منزلة الإله من حقه أن يفعل ما يشاء، وتحت هذا القهر السلطوي كان تبليغ الدين –أي دين- وحرية الاعتقاد سواء حرية اعتناق الإسلام أو غيره أمرًا مستحيلًا، لأن التوحيد يعنى الإعلان عن المبادئ الإنسانية الخالدة والتي من بينها أن الكبرياء لله وأن الناس سواسية وهذا ليس في مصلحة (الإمبراطور الإله)، فلزم النضال الحربي المؤقت لإنهاء هذه الفتنة حتى يكون أمر الدين وأمر الإعتقاد والحكم بشأنه لله وحده في الآخرة وليس لبشر في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالى (ويكون الدين لله) أي يكون الفصل بشأنه لله فقط في الآخرة، بخلاف الفهم القاصر للمتطرفين والتكفيريين لهذه الآية حيث يزعمون أن الدين هنا هو الإسلام، وأن قتال الناس واجب لإجبارهم على اعتناقه –كما زعموا كذبًا.

تقترب فلسفة المُرجئة من الجوهر الإسلامي العام القائل بحرية الاعتقاد والتعددية؛ فليعتقد البشر ما شاءوا وليختر الواحد منهم ما شاء من اعتقاد، أما الفصل في المسألة فيتم إرجاؤه للآخرة، وأما من يحكم في أمر الاعتقاد والدين ويفصل في الخلاف بشأنه ويحاسب ويعاقب عليه فهو الله وحده وليس أحد من البشر مهما كان سلطانه، وهذا معنى قوله تعالى “ويكون الدين لله” أي يكون أمر الدين لله في الآخرة وليس لبشر في الدنيا، أي من يفصل ويحاسب ويعاقب في أمر الاعتقاد هو الله وليس غيره ومكان الفصل والحُكم في ذلك في السماء لا على الأرض.

مزايا أطروحات المرجئة الفكرية

يفتح تأجيل وإرجاء الحكم بشأن المعتقد والخلافات الدينية الباب واسعًا للفلسفة والتأويل والكلام، مما جعل المرجئة من الكلاميين القريبين إلى المعتزلة كما رأى فيهم ابن حزم الأندلسي؛ حيث أن إرجاء الأمور وعدم حسمها، يقود كفكرةٍ إلى المزيد من التنوع في الآراء وطلب التطور الفكري وعدم حصره في حكمٍ شرعيٍ محدد بالصحيح أو بالباطل، كما يقود بالتالي إلى فرز قوانين اجتماعية موضوعية ناتجةٍ عن إرادة الأفراد وحاجاتهم.

ويقيد فكر المرجئة التكفير لأنهم يرون أن من ترك الصلاة والصوم والزكاة وعامة الفرائض بدون أن ينكرها على الناس أو يجحد بها فهو ليس بكافر، إنما (يُرجأ أمره إلى الله)؛ أي أن الله وحده يقرر بشأنه، ولا حكم بشري يسبق حكم الله على أي إنسان.

كانت أطروحات وتصورات المرجئة إذن محاولة متقدمة لتخليص السياسة وأمور الدنيا بشكل عام من سيطرة الدين الذي تفرضه الدولة، من خلال تبنيهم قناعة مفادها أن الإيمان مسألة خاصة بالإنسان الفرد والحكم بشأنه أمر يختص به الله وحده في الآخرة، ما من شأنه التوصل إلى نموذج دولة تفرض فيها الدنيوية قوانينها وتترك الأحكام الدائرة حول الإيمان والتدين للآخرة، وهو ما لم يعجب ولم يَرُق للعديد من الفقهاء القدامى كما لم يعجب الجماعات الدينية المتطرفة المعاصرة تلك التي لديها رواية محددة عن الإسلام تفرضها بالقوة وتسعى لفرضها بسلطة الدولة، كما تتدخل في إيمان الفرد وتحكم عليه في الدنيا إن كان كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا بحسب أعماله.

دأبت الجماعات التكفيرية المعاصرة مثل الإخوان والجماعة الإسلامية والقاعدة وغيرها على الهجوم على المرجئة، كما أنهم يطلقون على كل من خالفهم وقال بعدم تكفير المسلم حاكمًا أو محكومًا مصطلح (مرجئة العصر)؛ وسبقهم ابن تيمية في الهجوم الشديد على المرجئة القدامى حيث يرى أنهم (أول من قال إن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إمامًا تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات)، كما تم توجيه الاتهام لأعلام المرجئة وعلمائهم، مثل أبي الحسين الصالحي، ويونس السمري، وأبي ثوبان، والحسين بن محمد النجار بالزندقة أو الفتنة، واعتبر ابن تيمية المرجئة ممن (يمنحون الفساق فرصة ليطمعوا بعفو الله)، كما يزعم ابن تيمية أن الصحابة تبرؤوا من الإرجاء والمرجئة.

ويتهم رموز تيار الإسلام السياسي منذ ابن تيمية وحتى سفر الحوالي وصولًا لقادة جماعات التكفير المسلح المرجئة بالكفر تارةً وبالفسق والتأليب على الفتنةِ تارةً أخرى، رغم أنهم ليسوا من حملةِ السيوف، وليسوا ممن تبنوا رواية إسلامية معينة ليخرجوا كل من هو ضدها عن الإسلام.

ونقل ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) عن ابن شميل قوله (الإرجاء دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم).
نضال المرجئة ضد السلطة الدينية وضد تسييس الدين:

حدثت إذن محاولة مبكرة في التاريخ الإسلامي لجعل الدين مستقلًا عن الدولة والاحتفاظ به مقدسًا في العلاقة العبادية بين العبد وربه بعيدًا عن صراعات السياسة؛ عندما انحاز كبار الصحابة رضي الله عنهم، منذ بدأ النزاع بين الأمويين والهاشميين إلى استقلال الحكم عن الدين واعتكفوا في المدينة، وسُمي أصحاب هذا الاتجاه (المُرجئة).

قضى يزيد بن معاوية في اقتحامه للمدينة المنورة والمذابح التي أقامها لأهلها وللصحابة والتابعين على هذا الاتجاه وأذل أهله،  لم يكن أهل المدينة ومن فيها من الصحابة والتابعين يرفضون حكم يزيد، ولكنهم أرادوا مدنية ودنيوية الحكم بدلًا من تديينه، فقُتلوا لأجل ذلك وأُجبروا على البيعة والخضوع.

وثار التابعون من المرجئة وقاتلوا لأجل الاستقلال بين السياسي والدعوي أو ضد تديين الحكم وتسييس الدين، وهي الثورة المسماة ثورة العلماء بقيادة (ابن الأشعث)، وقضى عليها الحجاج وذبح علماء (المرجئة) وأهمهم وأشهرهم سعيد بن جبير.

حاول الجيل التالي من المرجئة أن يحوروا موقفهم في اتجاه فقهي فكري وفلسفي عندما بدأت المدارس الفقهية والفكرية في التشكل فكان المعتزلة (كانوا يسمون في البداية الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان)، وذُبح خالد القسري الجعد بن درهم معلم الجهم في المسجد في يوم عيد الأضحى، ولكن المعتزلة أنشأوا تيارًا دينيًا وفقهيًا قويًا واقترب منهم أيضًا أو بدأ في فلكهم المذهب الحنفي في الفقه والتشريع.

الإرجاء انطلاقة للإصلاح والتجديد الديني:
تقف الجماعات المتطرفة على النقيض من أطروحات المُرجئة ويتهم دعاتها وناشطوها كل من بقول بالتعددية الدينية وفصل الديني عن السياسي بالكفر والردة وبأنه من مرجئة العصر.

ذلك لأن جماعات الإسلام السياسي حرفت المفاهيم لتحقيق أهداف محدودة وليصبح الصراع على من هو أحق باحتكار الإسلام في الدنيا والحكم على عقائد الناس ومستويات إيمانهم مغذيًا لحالة دائمة داعمة للتمزق والفرقة بتوظيف مزوِر للدين، بزعم أنهم يقاتلون لجعل الدين الذي يُسمح باعتناقه فقط هو الإسلام، وبجعل الإسلام سلطة تفرض الإيمان على الناس بالإكراه.

ويُعد هذا الطرح معوجًا وسطحيًا؛ فالمراد عكس ذلك تمامًا لأن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة متعلق بفتح الباب أولًا أمام حرية الاعتقاد وليس الإجبار على اعتناق دين بعينه (ولو كان دين الإسلام)؛ فلا يُجبر أحد على اعتناق دين بعينه ولا يُمنع أحد من اعتناق دين آخر، وهو ما ينسجم مع آيات قرآنية عديدة تتحدث عن التعددية الدينية وحرية الاعتقاد ومنها قول الله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

إذن قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإنهاء فتنة القهر السياسي والديني وإنهاء تسلط الطغاة وحرمان الناس من اعتقاد ما يشاءون بكامل إرادتهم وحريتهم وتحقق ذلك -قاتلنا حتى لا لم تكن فتنة وكان الدين لله-، فلم تعد دعوة التوحيد ولا إعلان الحرية يلقيان أية عقبات في طريقها كتلك التي كانت سائدة قديمًا.

ثم جاء من يناهض مقصود الدين ومراد الخالق ويصنع فتن الفرقة باستخدام مزيف لنفس الآيات التي أراد الله من البشر فهمها في اتجاهات ومسارات أخرى.

إن ما دعا له المرجئة قديمًا هو ما يدعو له ناقدو تيار الإسلام السياسي ومعارضوه حديثًا؛ حتى لا تعيش الأمة في دوامة متصلة من التمرد والتآمر السياسي والقتال من أجل الحكم، وفي تنازع للمذاهب والفرق التي أسهمت جميعًا في القضاء على وحدة الأمة، بخروجها تدعو كل منها ضد الأخرى وتزعم كل فرقة أنها وحدها على الحق وغيرها على ضلال وباطل.

لا يمكن قياس فكر اليوم بالماضي، أو مقاربة أيهما بالآخر خارج ظروفه التاريخية ووقائعه الخاصة التي أنتجته، لكن عرض الوقائع التي تشكلت حولها المرجئة يكشف أنهم اتخذوا موقفا جريئًا ومتقدمًا يميل إلى الرشد وتوخي مصلحة الدين والأوطان؛ منذ بدايات تسييس الإسلام، فنبذوا التطرف وحاولوا التقرب إلى الله من خلال نبذ أجواء الفزع والخوف التي سادت بين المسلمين بفعل القتال على السلطة والصراعات على الحكم.

القراءات العقلانية والمعتدلة للدين مثل التصورات الأولى للمرجئة والتي تعرضت للإقصاء والملاحقة على يد السلطات السياسية والفقهاء القدامى، وتلك التي تعرضت لاتهامها بالإرجاء والكفر من قبل قادة الجماعات المتطرفة، هي الأكثر أهميةً وفاعليةً في بناء الاعتدال وتكريسه.

وقد يكون المحتوى الفكري لهذه المدارس متقدمًا ويصعب على نسبة كبيرة من الجمهور والمتدينين والشباب استيعابه، لكن يمكن خدمة هذه الأفكار بمزيدٍ من التبسيط والشرح، وتحويلها إلى محتوىً قابل للاستيعاب في المدارس والمساجد، والمكتبات والنوادي وقصور الثقافة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى