fbpx
مقالات

هشام النجار يكتب: تحرير سوريا من الأسد يخفي أطماعا تركية فهل يتحقق حلم العثمانيين الجدد؟


هناك ثورات وطنية خالصة يبقى فيها الجيش حارسًا للشعب وضامنًا لتحقيق مطالبه المشروعة دون أن تقع مؤسسات الدولة ودون السماح بتدخل خارجي ناهيك عن فتح الباب للأطماع الإقليمية على مصراعيه.
فارق كبير جدًا بين نموذج ظل فيه الجيش حاميًا وحارسًا لكيان الدولة ومقدراتها وحدودها وللشعب مع قيادته لفترة انتقالية لحين تشكيل حكومة جديدة وإجراء انتخابات ووضع دستور، وفي المقابل نموذج يتفكك خلاله الجيش وتحل محله جماعات ولاؤها الإقليمي والأيديولوجي معروف، وبدون جدال ستكون طيعة في يد ووفق توجيه الجهة الخارجية التي دعمتها رعتها.


في النموذج السوري الحالي تخفي الفرحة الكبيرة بالتخلص من نظام ديكتاتوري غاشم تحريك لخطط ومشاريع توسع إقليمي طالما عبرت عن نفسها عمليًا على الأرض ناهيك عن كونها موثقة ضمن خرائط ومؤلفات وخطب وتصريحات.
بدأ العصف بحدود المنطقة وتوازناتها ومعادلاتها في العام 1915م، فسايكس بيكو غيرت المصائر والخرائط وتم وضع حدود مختلفة لدول المنطقة ليتغير وجهها بالكامل بعدها بعامين مع وعد بلفور في العام 1917م الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين.
لم تنتظر المنطقة طويلًا حيث كانت على موعد آخر مفصلي بعد سايكس بيكو ووعد بلفور من شأنه إكمال التغييرات الجوهرية مع إبرام اتفاقية لوزان في العام 1923م أي بعد بلفور بستة أعوام حيث وُزعت تركة الدولة العثمانية البائدة، وأُعلن ميلاد الدولة التركية الجديدة كجمهورية محدودة الجغرافيا بديلًا عن السلطنة القديمة.


ترقب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفقًا لما هو موثق في خطاباته وتحديدًا منذ العام 2014م بصراحة ووضوح عام 2023م حيث خطط في هذا التوقيت للخروج على العالم معلنًا التخلص مع شروط معاهدة لوزان التي وقعتها دولته برئاسة مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923م ليتحرر من ضيق الجغرافيا التي حبسته فيها بنود تلك المعاهدة، وليتوسع على حساب جيرانه كيفما شاء، بوصف جغرافيا الجيران كانت تحت هيمنة الدولة العثمانية قديمًا قبل توقيع تلك الاتفاقية.
بدا أردوغان جادًا تمامًا في مخططه هذا خاصة مع ما يتعلق بالشمال السوري الذي تعامل معه فعليًا بالغزو والاحتلال بجهود جيشه ومرتزقته من جماعات الإسلام السياسي خاصة من أعضاء جماعتي القاعدة والإخوان تمهيدًا لما كان من المفترض أن يعلنه ويتخذه من إجراءات أحادية في العام 2023م، بالرغم من أنه لا توجد بالاتفاقية فقرة تنص على إلغائها أو تحديدها بمدة معينة ليتم إلغاؤها بعد انقضاء مائة عام، كما لا توجد بالمعاهدة مواد سرية.


يعود السبب إلى أهمية موقع سوريا الإستراتيجي والتي كانت بخرائطها وجغرافيتها الفريدة عقدة سايكس بيكو بدون مبالغة، في سياق موقع وتاريخ حضاري وتنوع عرقي وثقافي ومذهبي وعقائدي يجعل من سوريا خلاصة الشرق ورونقه ونقطة مركزيته لمن أراد أن يمتلك مفاتيح التحكم والهيمنة، خاصة إذا كان هذا الطامع حاكم تركي مسكون بماضي أجداده الاستعماري التوسعي.
لم يتخلى الرئيس التركي أردوغان عن حلمه التوسعي فسوريا هي الكاشفة للتوازنات الشرق أوسطية، وهي التي تحول دون وصول الأتراك إلى أعماق شبه الجزيرة العربية، وهي متنفس لبنان الجغرافي وإطلالة العراق على شرق البحر المتوسط، فضلًا عن جوارها الإستراتيجي مع فلسطين، بمعنى أن أي مهووس بالتوسع يمتلك حلمًا بالتمدد وكسر الحواجز الحدودية والتموضع الإستراتيجي للانطلاق نحو تنفيذ باقي مخططه التوسعي وربما الامبراطوري فلا غنى له عن الهيمنة على هذا الموقع الجيوإستراتيجي الفريد.


أدرك أردوغان بذكائه ودهائه أن المرحلة تمر بما مرت به المنطقة قبل قرابة القرن وأن هناك ترتيبات جديدة على غرار سايكس بيكو القديمة، وأن من ينخرط في لعبة ترتيب الأوراق وإعادة رسم الخرائط بشكل رئيسي ليس القوى الدولية الكبرى فقط كما كان بالماضي، إنما أيضًا القوى الإقليمية غير العربية (إسرائيل وتركيا وإيران)، ولذلك منذ العام 2016م أي في الذكرى المئوية لسايكس بيكو بدأ أردوغان يشير للمرة الأولى منذ صعوده وحزبه لحكم تركيا إلى (الميثاق الملي) بشكل يرمي إلى رغبة الرجل في إعادة رسم الخرائط على أساس مواد الميثاق 1920م وتنحية خرائط معاهدة لوزان 1923م.
أدرك أردوغان جيدًا أن لن يستطيع المضي في مشروع بهذا الحجم (ضم سوريا أو على الأقل شمالها إلى خريطة الميثاق الملي) يتطلب الوقوف أمام العالم والضغط على قوى وابتزاز أخرى بغرض استعادة خرائط الميثاق الملي وفرضها دون أن يهيمن على الساحة السورية، بشكل يمكنه من لعب دور إقليمي متقدم يفرضه كلاعب دولي رئيسي؛ فسوريا هي محور التوازن لمجمل الصراعات الإقليمية بالمنطقة وهي بوابة الأدوار الإقليمية والدولية في المشرق العربي.


تحركات ومواقف أردوغان منذ وصول حزبه الإخواني ومرجعيته (ميللي غوروش- نجم الدين أربكان- محمد قطب) إلى السلطة في تركيا في العام 2002م عكست أولًا اعتناقه أيديولوجية هي مزيج بين القومي والإسلاموي، وثانيًا أنه حريص أكثر من أي شخص آخر في تركيا ينتمي للفكر العلماني على إعادة خريطة الميثاق الملي، وأنه عازم على إعادة احتلال المناطق التي يروج الإسلاميون والقوميون الأتراك أنها اغتصبت منهم في بنود معاهدة لوزان.
القوميون الأتراك من خلال مغامرة تيار الإسلام السياسي بزعامة الرئيس التركي أردوغان أرادوا التخلص من إرث اتفاقية لوزان التي فُرضت من قبل القوى الغربية لترسم حدود تركيا كما هي عليه اليوم، وهو ما يعتبرونه انتقاصًا من الشخصية التركية وإهانة تاريخية مؤلمة فضلًا عن حرمان تركيا من ثروات وموارد تلك المناطق الغنية بالنفط والمحاصيل الزراعية خاصة في شمالي سوريا والعراق.


كيف سيفرض أردوغان هذا الواقع وهذا التغيير الهائل على القوى الغربية التي رفضت الميثاق الملي في أعقاب حرب الاستقلال اليونانية التركية منذ 1919 إلى 1922م؛ فالميثاق يعتبر شمال العراق وعاصمته الموصل وشمال سوريا وعاصمته حلب وثمانية عشر جزيرة من جزر بحر إيجة بجانب تراقيا الغربية وجزيرة قبرص جميعها جزء من الدولة التركية، وأردوغان ونظامه في هذه الحالة قد أعلنوا فعليًا أمام العالم كله أنه بصدد بناء إمبراطورية عثمانية جديدة وتلك هي حدودها بدلًا من تلك التي انهارت قبل قرن من الزمان؟


لاشك أن للغرب مصالح تتحقق من وراء هذا التغيير الكبير في الخرائط لحسابه بشكل مباشر ولحساب حلفائه خاصة إسرائيل (ومصالح إسرائيل هنا يمكن وصفها بالتاريخية، لحساب مشروع توسعي آخر وهو مشروع إسرائيل الكبرى).
جاءت الفرصة الأولى مع انطلاقة ما عُرف بالربيع العربي واستغله أردوغان أفضل استغلال لتحقيق حلمه وهدفه الرئيسي من خلال قلب موازين القوى الإقليمية وإعادة رسم خرائط المنطقة لتوافق خريطة الميثاق الملي، مستخدمًا جماعات وفصائل الإسلام السياسي المشتركة معه في القناعات الأيديولوجية والتي لا تقيم وزنًا للبعد العربي ولحدود الدول الوطنية، ما يعني أن الحلم قابل للتحقق مع انبعاث الفوضى وتصاعد نفوذ وحضور جماعات التكفير وتنظيمات الإسلام السياسي.


بدت الفوضى التي ضربت سوريا ذلك البلد العربي المهم بمثابة الفرصة الذهبية التي ينبغي ألا يضيعها تيار العثمانيين الجدد بتركيا بأي صورة خاصة مع سقوط حكومات تونس ومصر وليبيا، وهو ما اعتبره أردوغان نصرًا شخصيًا له ومقدمة تمهيدية لطرح مشروع الخرائط الجديدة، فالتطلع لسوريا من قبل أردوغان مع اندلاع الحرب في سوريا كان في إطار خطة إلغاء لوزان والعمل بمقتضى الميثاق الملي الذي يعتبر الشمال السوري جزءًا من الدولة التركية.


أتت الفرصة الثانية في أعقاب الانتكاسة التي أصابت المشروع متمثلة في تداعيات متغيرين هامين (تدخل روسيا وإيران في سوريا والتحول إلى تنافس وتصارع طائفي بين ميليشيات تدعمها تركيا وأخرى شيعية تدعمها إيران، والأخر فشل وسقوط جماعة الإخوان في الحكم)، لكن سرعان ما ارتدت الأوضاع لصالح أردوغان بعد هجوم طوفان الأقصى وتداعياته المعروفة التي قادت لإنهاء نفوذ إيران وطرد ميليشياتها من المنطقة فضلًا عن تقليص نفوذ روسيا إلى الحد الأدنى نتيجة الانشغال بالحرب في أوكرانيا وعوامل أخرى، ولذلك تغير وقت تنفيذ الهجوم الواسع باتجاه الأراضي السورية وانطلاقًا من الشمال عبر أداة الإسلاميين ورعاية تركية وتأخر عامًا.


في الحالتين العراقية والسورية وظف العثمانيون الجدد نفس الذرائع ونفس الأدوات فهم هناك لمحاربة الأكراد الذين يصفونهم بالمتمردين والإرهابيين، والأدوات تجنيد التركمان وفصائل القاعدة والإخوان، ومن هنا أسس أردوغان الجيش السوري الحر وصارت تركيا هي الداعم الرسمي الأول للفصائل الجهادية بداية لفصل جزء من الأرض عن جسد الدولة السورية تحت عنوان الثورة السورية وتاليًا اإنطلاق من هذا التمركز لبسط الهيمنة على غالبية الجغرافيا السورية وعزل الأسد وإحلال أحمد الشرع محله، والهدف هو تعزيز وحماية الاستيلاء على الشمال السوري وقضمه لصالح خريطة الميثاق الملي.


لماذا أعلن أردوغان محاربة أكراد سوريا، هل لأنهم بالفعل يشكلون خطرًا على دولتهم؟ لا فهم مكون سوري، نعم لديهم مشكلات مع حكومتهم لكن يمكن حلها في السياق الوطني، أما الدافع الحقيقي فهو أن الأكراد السوريين يتمركزون في مناطق الثروة وحقول الغاز والنفط والثروة المائية في الشمال السوري ويطمع أردوغان في سحب الهيمنة على هذه الأرض من الأكراد لصالح حكومته.
استدعى أردوغان أيضًا ورقة حماية الأقليات على الطريقة الإيرانية حيث تحججت إيران لتتدخل في شؤون الدول الأخرى ولفرض واقع مغاير عليها بذريعة حماية الشيعة، لذا كرر أردوغان كثيرًا أنه حاضر في الشمال السوري لحماية الأقلية التركمانية هناك، وهو ما دفعه لتسليحهم وتشكيل ميليشيات مسلحة منهم تضاف لميليشيات الإخوان والقاعدة والمجموعات الشيشانية المتطرفة المسلحة والأتراك الأويغور التي حملت إسم حزب أويغور التركستاني الإسلامي، وجميع تلك المكونات والميليشيات نشطت تحت إمرة أردوغان وجهاز مخابراته بالساحة السورية.


لم تكن حرب العثمانيين الجدد في سوريا بتوظيف تلك المجموعات المسلحة كما يروج أردوغان لحماية الشعب السوري من نظام ديكتاتوري ولا سعيًا لتحقيق مصلحة السوريين بل كانت منذ البداية للاستيلاء على المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، ما يمنح أردوغان المساحة الجغرافية اللازمة لتوسيع جغرافية تركيا على مسطرة خريطة الميثاق الملي.


الميثاق الملي هو الوثيقة التي فككت وشرحت غالبية تصرفات أردوغان وتصريحاته وتحركاته منذ العام 2011م وصولًا لإطلاق عملية ردع العدوان لإسقاط حكم الأسد، فهو من منطلق خريطة الميثاق ضرب الأكراد لطردهم من مناطق سيطرتهم في الشمال السوري، وطالب بمنطقة آمنة تمتد من كوباني حتى أعزاز زرع بها العناصر الموالية له، وحرص على إبقاء الأكراد على الضفة الشرقية من الفرات بعيدًا عن المنطقة الوسطى المركزية وعاصمتها حلب، لسبب تاريخي محض فهذه المنطقة هي الخطوط العريضة لخريطة الميثاق الملي، وهي الآن بعد التغييرات الجديدة صارت بالوكالة ضمن خريطة الميثاق الميللي وتحت هيمنة العثمانيين الجدد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى