د. علاء جراد يكتب: “زقة” صغيرة تصنع الفارق
عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي، أهداني أحد أساتذتي فكرة كانت بداية لتغيير كبير في حياتي.
كانت تلك الفكرة تتلخص في أن أبدأ بدراسة مناهج الصف السادس إلى جانب مناهج الصف الخامس، شجعني الأستاذ على ذلك بكل قوة، وسرعان ما سجلت أنا واثنان من زملائي في مدرسة خاصة لدراسة مناهج الصف السادس في الفترة المسائية.
لم تكن المدارس الحكومية تقدم مثل هذا الترتيب في ذلك الوقت، فكان علينا أن ننتهي من يومنا الدراسي في المدرسة الحكومية ثم نذهب إلى المدرسة الخاصة. استمر هذا الروتين المرهق، حيث كان يومنا يبدأ في السابعة صباحًا وينتهي في السابعة مساءً، ومع ذلك كنا نشعر بالحماس والسعادة.
بفضل الله، تمكنا نحن الثلاثة من اجتياز العامين الدراسيين بنجاح وتميز، وانتقلنا إلى المرحلة الإعدادية.
شعرت بفخر وسعادة لا توصف بإنجازنا الذي لم يكن ليحدث لولا “الدفعة” التي قدمها لي هذا المعلم الفاضل.
كانت مجرد فكرة ولكنها مؤثرة للغاية، فقد كانت بمثابة دفعة تحفيزية ساعدتني على تحقيق هذا النجاح الكبير.
بعد ثلاث سنوات، وأنا في الصف الثالث الإعدادي، كان لهذا المعلم الفاضل دور آخر في حياتي، هذه المرة قدم لي “دفعة” في تحسين لغتي الإنجليزية، لم يكن اهتمامه مجرد تشجيع عابر، بل كان مدعومًا بتوجيهات حقيقية ودعم ملموس، إذ أهداني كتبًا وساعدني على تطوير مهاراتي في اللغة حتى أصبحت شغوفًا بإتقانها. هذه الدَفعة من أستاذي الأستاذ أحمد عبداللطيف – أطال الله في عمره – فتحت أمامي أبوابًا واسعة وأثرت على مسيرتي بشكل كبير.
في وقت لاحق، عندما التحقت بالجامعة وبدأت مشوار دراسة البكالوريوس، حيث لم تكن اللغة الإنجليزية تشكل سوى جزء صغير من المواد، قدم لي أحد أصدقائي هدية غير متوقعة.. قام هذا الصديق بتسجيلي في دورة مكثفة لتعلم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية في الإسماعيلية.
كانت تلك الهدية بمثابة “دَفعة” أخرى في مسيرتي التعليمية، حيث التحقت بهذه الدورة ضمن أول مجموعة من الطلاب بفرع الإسماعيلية آنذاك.
مرة أخرى، كانت دفعة بسيطة لكنها أثرت بشكل كبير على تعلمي وأثرت حياتي المهنية لاحقًا.
تأتي هذه الأمثلة لتؤكد أهمية تلك “الدفعة” في حياة كل فرد منا. إنها ما نطلق عليه باللهجة المصرية “زقة”، والتي قد تكون بسيطة ولكنها تحدث فرقًا كبيرًا في حياة الإنسان.
نحتاج جميعًا إلى هذه “الزقة” من وقت لآخر، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لأنها تحمل في طياتها شعورًا بأن هناك من يهتم بنا وأننا لسنا وحدنا في هذا العالم الذي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.
من الأمثلة الملهمة على تأثير “الدفعة” البسيطة في حياة الناس، هو ما فعله محمد يونس، رائد بنوك الفقراء والحائز على جائزة نوبل، عندما أسس بنك “جرامين” في بنجلاديش.
كان هذا البنك يهدف إلى تقديم قروض صغيرة للمزارعين وربات البيوت، في حدود 100 دولار فقط. على الرغم من صغر المبلغ، إلا أنه كان كافيًا لشراء مستلزمات إنتاج تساعدهم على بدء مشاريع صغيرة، ومع مرور الوقت، نمت تلك المشاريع وتحولت إلى أعمال ناجحة.
كانت البداية مجرد “زقة” بسيطة، لكنها كانت فارقة في حياة الملايين، وانتقلت التجربة لمعظم دول العالم.
الدَفعة ليست بالضرورة أن تكون مادية؛ قد تكون معنوية أو نصيحة صادقة.. ربما مجرد توجيه صادق أو كلمة طيبة قد تكون كافية لتغيير حياة انسان، إن الاهتمام الصادق بأشخاص من حولنا وتقديم “دفعة” صغيرة قد يصنع فرقًا كبيرًا.
أتمنى أن نفكر جميعًا في إعطاء دفعة لشخص ما، حتى ولو لم نكن نعرفه معرفة وثيقة.
يمكن أن تكون هذه الدفعة عبارة عن مساعدة مالية بسيطة لطالب محتاج، أو دفع رسوم دورة تدريبية، أو حتى التنازل عن جزء من المال المستحق لشخص آخر.
قد تكون أيضًا دفعة معنوية، مثل تخصيص وقت لحل مشكلة، أو إعطاء نصيحة مفيدة.
هناك العديد من الأمثلة وهي لا تتطلب جهدًا كبيرًا، لكنها بالتأكيد قد تصنع فرقًا جوهريًا.
في النهاية، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وسيأتي اليوم الذي نحصل فيه على دفعتنا الخاصة أو ربما دفعة لشخص نهتم لأمره.