رمزية الصورة كوسيلة لصناعة واقع وتسليع المعلومة وشخصنة الإعلام
استطاعت التكنولوجيا في الوقت الحالي أن “تُشَخْصِنَ” الإعلام وتُسلِّع المعلومة والصورة وتُميِّع الحقيقة، حتى صار الحق يلتبس بالباطل على المتلقي.
منذ قديم الزمان كانت الصورة اساس لغة الانسان البدائي التي استطاع من خلالها وصف الاشياء، عن طريق الرسم على الألواح الطينية والمعابد.
وكما تتمتع الصورة بقوة اتصالية كبيرة بخلاف اللغة المنطوقة أو المكتوبة، وهذا هو السبب الذي جعل المهتمين بالتواصل على مدى العصور في كل مراحل التاريخ وفي أي مجتمع يلجأون إلى الصورة.
الصورة تكسر حاجز اللغة
إن للصورة مميزات وخواص تجعلها على قدر من الأهمية لا يمكن إغفاله. فالصورة لها طبيعة رمزية واختزالية أيضا، يحكمها مبدأ: “أن ترى يعنى أن تختصر”، لذا وصفت الصورة بواقعيتها، فهي قادرة على التوصيل الناجح بتأثير أكبر من تأثير الكلمة (لوحظ أن استيعاب الفرد للمعلومات يزداد بنسبة 35% عند استخدام الصوت والصورة معا).
ومن هذا المنطلق الذي يبين أهمية الصورة في ايصال الرسالة من خلال المشاهدة فقط، نجد دلالة حقيقية في ايصال المطلوب للمتلقي وكان الاهتمام بالصورة كبير.
للصورة أنواع متعددة ـ حصرها د.شاكر عبد الحميد في كتابه “عصر الصورة”:
“الصورة البصرية” وهى الملموسة للعيان، و”الصورة الذهنية” وهى ليست حرفية أو مماثلة للصورة الحسية، بل درجة أعلى.
ثم الصورة “التي تشير إلى المؤسسات أو الأفراد أو الشعوب”.. مثل صورة الشعب الصيني وملامحه.
أما “الصورة الارتسامية” فهي نوع من الصور الشبيهة بالإدراك، ثم “صور الذاكرة” التي تعد نوعا من التفكير المألوف لنا في عمليات التفكير.
وعرف ابراهام مولس الصورة “الصورة هي حامل من حوامل الاتصال البصري، وهي إحدى الدعائم الأساسية في وسائل الإعلام الجماهيرية(الفوتوغرافيا، التصوير، النحت ، السينما، التلفزيون وعالم الصورة ينقسم إلى صور ثابتة وصور متحركة.
الصورة والاقناع:
الصورة تسهم في الإقناع من خلال التكرار الذي يخلق ألفة ولذلك تستخدم لتسويق السلعة، فكلما تعرض إليها الإنسان كان هناك ألفة وذهاب لاقتناء السلعة بلا وعي.
و على المستوى السياسي يشير بعض الباحثين في الصورة ما عاد بوش محتاجا لإقناع الدول بأهمية اتخاذ دعمه في مواجهة الإرهاب فصورة مبنى التجارة العالمي والطائرة تخترقه قد سبقته في عملية الإقناع؟ .
حساسية وضوابط استخدام الصورة
هناك أمران عند التعرض للصور يحتاج إلى نوع من الحساسية والضبط، بمعنى أنه لا تكثر من تكرار الصورة، واجعل هناك مسافة بين الصورة وعرضها، لابد أن تكون هناك مسافة كافية مقدارها بحسب المادة نفسها وأهميتها، وبحسب طبيعة الجمهور الموجهة إليهم هذه المادة المصورة، فالأمر يحتاج دراسة لخصائص الصورة وخصائص المتلقي.
والأمـر الآخر أنه لا يمكن التعامل مع الناس على أنهم كتلة واحدة، هناك مستويات من الوعي، فمع الطفل التأثير أكثر، وعند الكبير هناك حس نقدي يتدخل، ويمكن أن ترى بعض السلع وترغب في شرائها وتكون لديك القدرة على شرائها ولا تشتريها بسبب الإعلان المنفر.
عصر الصورة
من سمات هذا العصر أنه «عصر الصورة»، مما يعني هيمنة الصورة وسيادتها لتكون إحدى أهم أدوات عالمنا المعرفية والثقافية والاقتصادية والإعلامية، والصورة ليست أمراً مستجداً في التاريخ الإنساني، وإنما تحولت من الهامش إلى المركز، ومن الحضور الجزئي إلى موقع الهيمنة والسيادة على غيرها من العناصر والأدوات الثقافية والإعلامية.
قوة الصورة في إيصال الرسالة الإعلامية
البصر أهم وأكثر حواس الإنسان استخداماً في اكتساب المعلومات.
قوة الصورة تنطلق من مفهوم التصديق والتكذيب، لأن الرؤية البصرية هي أساس التصديق، ولذلك يقال “ليس من رأى كمن سمع”.
الصورة تخاطب كل البشر، المتعلم والأمي، الصغير والكبير، وتكسر حاجز اللغات، لذلك فهي الأوسع انتشاراً.
تختلف الصورة عن الكلمة المنطوقة أو المكتوبة لأنها ترتبط بشيء ملموس ومحسوس ومحدد، والكلمة مرتبطة بشيء تجريدي، غير ملموس، ويتصف بالتعميم.
تختلف الصورة عن الكلمة المكتوبة في سهولة التلقي، لأن القراءة تتطلب التأمل وتشغيل العقل، أما الصورة فلا تحتاج جهد ذهني لتلقيها.
الصورة تختلف عن النص المكتوب، الذي يتطلب تفكيك العلاقات القائمة بين الكلمات، بجهد وتركيز وبطء، بينما الصورة تعطي الرسالة دفعة واحدة.
من أجل ذلك انتشر المثل المشهور الذي يقول: “إن الصورة تساوي ألف كلمة”.
دلالات الصورة
1. الرموز، وهو ما توحي له الصورة من خلال الموضوع المطروح.
2. الأماكن (الاماكن الظاهرفي الصورة مثل ابراز معالم).
3. المعلومات (موضوع الصورة ) .
4. والواقعية (احداث موجود بالفعل ).
كلها دلائل تساهم في عملية الاقناع وايصال المعلومة.
ما يحدث اليوم في عالم الإعلام من تطورات سريعة، فيأي وقت ومكان يذهب اليه الإنسان يجد صورا تخبره بما حصل في الماضي القريب أو البعيد، أو ما يحصل مباشرة في أماكن أخرى.
ويدعونا هذا إلى التفكير في طبيعة الخبر نفسه، وكيف أصبح مفهومُه يَتغير مع تطور وسائل الإعلام التكنولوجية.
تكنولوجيا التصوير ونقل الصورة ساهمت في توسيع معنى الخبر وتأثيره بحيث أصبح الخبر محسوسٍ وبصري تتناقله عدسات الكاميرا ليصل الى المتلقي بسهولة، كما أن هذه التكنولوجيا غيرت معنى الحقيقة ذاتها ومنظومة القيم المرتبطة بها.
الأصل في الإعلام -قبل أن تتوسع مدلولاته- أنه ينقل الخبر، والأصل في الخبر أنه يحتمل الصدق والصواب، كما يحتمل الكذب والخطأ.
وكلما الحدث -أي رآه بأم عينه- كان أقرب إلى الإخبار بحقيقته، من غيره ممن لم يعاينه.
فاقتران صدق الخبر بحاسة النظر شيء يقبله الحدس الطبيعي، إلا أن معاينة الحدث والإخبار عنه شيئان مختلفان.
فإذا كان الحدث واحدا فإن أساليب الإخبار به تختلف باختلاف أساليب المتحدثين وطرائقهم في الوصف والتعبير وميولهم الذاتية في تمثل الأشياء وحقائقها.
كثيرا ما يتجاوز الإنسان حدود الحقيقة الموضوعية وهو يصف ما يرى، إما لفرط إعجاب أو من هول صدمة أو ما شابه ذلك حتى أن الإخبار عن بعض الأماكن يطغى عليه الوصف الشعري أكثر من أي لغة أخرى، فيكون في هذه الحالة إخبارا عن الحالة الشعورية والنفسية أكثر مما يكون إخبارا عن حقيقة المكان.
فالإخبار عن مكة المكرمة في العالم الإسلامي -على سبيل المثال- كان قبل شيوع تقنية التصوير، يعكس حالات الحُجّاج الشعورية ووقوفهم مواقف الذهول أمام التاريخ المقدس وتشوقهم للقفز على الواقع المرئي بغية التأمل في فضاء نزول الوحي وتكون الدعوة الإسلامية وما إلى ذلك من المعاني الروحية. فقد كان ما يراه المسلمون في هذه المدينة المقدسة عندهم مختلفا تمام الاختلاف عما يراه غير المسلمين من الرحالة المتسللين يختلف الإخبار وتختلف الأوصاف، والمكان واحد.
لقد كان لاكتشاف تقنية التصوير الفوتوغرافي دور كبير في تغيير علاقة العقل البشري بالخبر والحقيقة.
فبعد أن كان العقل يقلب النظر في الخبر المكتوب بحثا عن العيوب أو النقائص المرتبطة بالخبر من معلومات، صار يقف أمام ما تحمله الصورة الفوتوغرافية من أخبار، وكأنه ينفذ إلى حقيقة الواقع المنقول دون وسيط.
تقترن الصورة الفوتوغرافية بالموضوعية أكثر من أي وسيلة تعبير أخرى، حيث إنها تكشف الغطاء عن حقيقة منظورة لا مِراء فيها.
التصوير الفوتوغرافي هو فن يُضيِّق المجال أمام إمكانية إسقاط المشاعر على الواقع، ويوسع المجال للكشف عن الحقيقة، على خلاف الفنون الأخرى التي توسع الساحة أمام إسقاط الذات على الواقع المنقول.
وتظلّ الصورة في نهاية الأمر مجرّد إطار، وكل إطار -كما هو معلوم- هو جامع مانع، يجمع أشياء ويمنع دخول أشياء أخرى.
فقد تكون الصورة انعكاسا لحقيقة الشيء من وجهة نظر، كما قد تكون في نفس الوقت إخفاء لحقيقة أخرى تخرج عن الإطار، من وجه آخر.
فالصورة، فضلا عن كونها تمثل فن كشف، هي في الوقت نفسه فن اختزال، تحاول أن تختزل حقيقة الشيء في لحظة ومكان تصويره.
أصبحت الصورة سلاحا يُستعمل في الاستحواذ على ماهية الآخرين وتثبيت صفاتهم في مخيلة الناظرين، هذا ما يظهر بوضوح في مجموع الصور التي كان يروج لها الاستعمار الأوروبي عن الشعوب المستعمرة، بغية تثبيت صفات لهذه الشعوب تُبرّر استعمارها.
وبهذا الاعتبار يصح الحديث عن آلة التصوير الفوتوغرافي كامتداد للمنطق الأرسطي بوصفه آلة عقلية كما يسميه أرسطو نفسه في كتابه “الأورجانون” أو علم الآلة.
فكلتا الآلتين يُتوسّل بهما لبلوغ حقيقة الشيء في حال ثباته لا في حال حركته، فالصورة الفوتوغرافية، مثل الحد أو التعريف المنطقي، تُستعمل لاستخلاص صفة مجردة للشيء الموصوف، تُعرِّفه بها تعريفا يقفز على واقع الحركة.
جرت العادة أن يَتزيّن المرء ويلبس أفخر الثياب ويختار أفضل وضعية في الجلوس أو الوقوف، ذلك لأن الصورة في هذا المقام هي محاولة لتثبيت ماهية تتعالى على الواقع، ولتأبيد أحسن صفة نرضاها عن أنفسنا، وكأن لسان حالنا يقول: “هذا أنا على الحقيقة المؤبدة، وكل الصفات الأخرى أعراض لا تمت بالصلة لمن أكون”.
وفي المقابل، الصورة تُستعمل كذلك لاستخلاص الصفات الملازمة للآخرين والمحددة لحقيقتهم الجوهرية الخالدة.
فقد اعتمدت الصورة أداة لتغطية واقع الآخرين تغطية تصب في تبخيس هوياتهم وتعرية تخلفهم.
إذا كانت الصورة الفوتوغرافية -بوصفها امتدادا لمنطق عقلي أرسطي- تجمد الشيء المنظور بغية تثبيت ماهيته وبالتالي التحكم فيه، فإن ابتكار آلة الصور المتحركة يؤشر على منعطف آخر في تاريخ الصراع حول الحقيقة.
بعد الاستحواذ على ماهية الشيء المصور بفضل الصورة الفوتوغرافية، أصبح ممكنا مع الصور المتحركة تثبيت سردية يرتضيها الإنسان لذاته، كما أصبح مُمكنا الاستحواذ على سرديات الآخرين.
من الأمثلة على ذلك، ما قام به الصحفي الأمريكي لويل طوماس (Lowell Thomas) في إطار مخطط جيوستراتيجي يهدف إلى إشراك أمريكا في الحرب العالمية الأولى، فقد استطاع بفضل تصويره للورنس العرب رفقة الثوار العرب في الجزيرة العربية، أن يقدم للرأي العام الأمريكي سردية عززت الموقف الداعي لدخول أمريكا في الحرب إلى جانب الحلفاء، دفاعا عن المضطهدين التواقين إلى الحرية والانعتاق من الاستبداد، لكن هذه السردية سرعان ما اختفت بعد الحرب العالمية الأولى لتحل محلها سردية أخرى تثبت على العرب المسلمين صفات الهمجية والإرهاب والتخلف.
شركات التكنولوجية العظمى، تعمل على تفكيك مؤسسات الحقيقة التي كانت تملكها الدول، وتبشر بعالم لا حقيقة فيه إلا الحقيقة الفردية، هذه الحقيقة التي تتناقلها وسائل الإعلام الجديدة عبر صور تخاطب عاطفة الفرد وأهواءه وذاكرته.
صناعة الخبر في زمن الذكاء الاصطناعي
بعد تفكيك بنية العقل الكلاسيكي، المجمد للماهيات، في زمن ما بعد الحداثة، أخذ الصراع حول الحقيقة منعطف آخر، إننا اليوم بصدد الانتقال من مرحلة البحث في علاقة التطابق بين الواقع والخبر، وبين الخبر والحقيقة، إلى مرحلة جديدة، يمكننا أن نصطلح عليها بمرحلة “صناعة الواقع والحقيقة”.
لقد مكّنت الهواتف الذكية الإنسان -بغض النظر عن مستواه الثقافي وخبرته في الإعلام أو أي مجال آخر- من التقاط صور للواقع كما يراه هو، ثم بث هذه الصور على وسائل التواصل الاجتماعي ليراها العالم.
وهذا الأمر أفضى إلى تشتت مفهوم الواقع، فقد تعددت صور الواقع بتعدد الأفراد الذين يملكون أدوات التصوير والبث الذكية، ونتج عن هذا تقلص دور المؤسسات الإعلامية التقليدية التي كانت تستحوذ على تعيين المداخل لقراءة الواقع وتحديد حقيقته.
حين نطيل النظر فيما يحدث اليوم في عالم الإعلام، يظهر لنا أن شركات التكنولوجيا الكبرى لم تعد تتنافس من أجل تثبيت صورة للواقع، بل صار همها مصروفا لتدبير العلاقة بين ما يبثه الفرد من معلومات على وسائل التواصل الاجتماعي وما ينتجه من محتوى يفصح عن خصائصه العاطفية وذاكرته الفردية، وبين كم المعلومات المبثوثة في العالم الرقمي.
لم تعد أهمية المعلومة -في زمن الخوارزميات والذكاء الاصطناعي- تكمن في كونها حقيقية ام مزيفة، بل صارت أهميتها تكمن في قيمتها التسويقية.
لقد تحولت إلى سلعة تنتج وتباع وتشترى، وبعد أن كان المتلقي مجرد مستهلك للمعلومة، تحول في الزمن الرقمي إلى منتج ومستهلك في نفس الوقت.
شركات التكنولوجيا الكبرى تتعامل مع الفرد، تطلب منه أن يفصح عن أي معلومة تدل على ميولi الفكرية أو الفنية أو الجنسية أو الرياضية، فتقوم عندها بإرشاده وتعيين سبل الدخول إلى العالم الذي يبحث عنه، أو الواقع الذي يراه حقيقيا.
ونخلص في هذا المقام إلى القول -باختصار شديد- إن شركات التكنولوجية العظمى، إذ تعمل على تفكيك مؤسسات الحقيقة التي كانت في ملكية الدول وشركات الإعلام الكبرى، تبشر بعالم لا حقيقة فيه إلا الحقيقة الفردية، هذه الحقيقة التي تتناقلها وسائل الإعلام الجديدة عبر صور تخاطب عاطفة الفرد وذاكرته.