“انشقاق” الدعم السريع.. لا أفق لانتهاء الحرب السودانية
إعداد: أحمد التلاوي
في العشرين من أكتوبر الجاري، أصدر الجيش السوداني بيانًا أعلن فيه بشكل رسمي، انضمام قائد قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة السودانية أبو عاقلة محمد أحمد كيكل إليه برفقة عدد من جنوده، مرحِّبًا بهذه الخطوة “الشجاعة” كما جاء في بيان الجيش السوداني.
تعود أهمية هذا التطور إلى أهمية ولاية الجزيرة، التي تمثل أكبر مصدر دخل غذائي واقتصادي في السودان، بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي، وأيضًا إلى أن كيكل يقود ما يُعرَف بقوات “درع السودان” التابعة لميليشيات الدعم السريع.
وبحسب بيان الجيش السوداني، فقد قام كيكل بتسليم نفسه إلى قيادة الجيش النظامي السوداني في منطقة جبال الِّليبتور في منطقة رفاعة الواقعة شرق ولاية الجزيرة.
زاد من أثر هذا التطور، أنه يأتي منسجمًا مع تقدمًا أحرزه الجيش السوداني في عدد من المناطق في السودان، بما فيها العاصمة الخرطوم، وولاية سِنَّار، المجاورة لولاية الجزيرة.
وبالطبع، فإن تقارير وتحليلات عِدَّة خرجت لمناقشة هذه الخطوة، لجهة “أهميتها”، ومدى تأثيرها على سياقات الحرب الأهلية في السودان، والتي لا تبدو لها نهاية، في ظل عاملَيْن مهمَّيْن؛ الأول، هو التباين الكامل في المواقف بين طرفَيْها، والثاني وجود أطراف إقليمية ودولية نافذة ولها قدراتها المالية والسياسية، تدعم كلٌّ منها طرفًا من طرفَيْ الحرب في السودان.
الجزء المهم الناقص من الصورة
بدايةً، فإن الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها كأساس لأي تحليل سليم للموقف في السودان، والأفق المستقبلي للحرب؛ أنه لا يوجد أخيار في لعبة الموت والدمار في السودان؛ حيث كلا الطرفَيْن ارتكب جملةً من الأخطاء، قادت إلى الوضع الحالي في البلاد.
فربما يبدو – وفق ما تظهره التقارير الإعلامية التي تتناول الموقف بصورة سطحية بعض الشيء – أن قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دَجَلُو المعروف باسم “حميدتي”، هي فصيل متمرد عن الجيش السوداني، وهذا صحيح، ولكن هذه الصورة ناقصة، ويكملها جزء مهم للغاية، ولابد من وضعه في الصورة من أجل استجلاء حقيقة ما يجري في السودان.
فلئن كان الدعم السريع قد قام بما يشبه الانقلاب، أو تمرد عسكري صريح على الجيش السوداني الذي يقوده الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي يرأس مجلس السيادة السوداني، فإن هذا يعود إلى انقلاب سياسي قام به البرهان نفسه على ترتيبات المرحلة الانتقالية في السودان والتي بدأت بعد تنحِّي الرئيس السابق عمر البشير عن منصبه في الحادي عشر من أبريل من العام 2019م، بعد ثورة شعبية عارمة ضده، وضد نظامه الذي كان يسيطر عليه الإسلاميون، وبخاصة جماعة “الإخوان المسلمون”.
ولكن، وقبل مناقشة جذر الأزمة التي اندلعت في السودان قبل حوالي عام ونصف، ومدى تأثير خطوة كيكل على مسار الحرب، من المهم التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أن كلا طرفَيْ الحرب الآن في السودان، هو ما يمكن أنْ نطلق عليه “إرث البشير”.
فـقوات الدعم السريع هي قوات أو مليشيات شبه عسكرية عمودها الفقري مليشيات “الجنجويد” التي تم تشكيلها بالأساس لفرض سيطرة الحكومة المركزية على إقليم دارفور غربي السودان، بعد التمرد الذي قامت به “حركة تحرير السودان” و”حركة العدل والمساواة” في فبراير من العام 2003م، بسبب اتهامات للحكومة المركزية في الخرطوم بتهميش واضطهاد سكان الإقليم – الغني بالثروات، وبخاصة الذهب – من أصول إفريقية.
وتم تشكيل هذه الميليشيات لأن الجيش الوطني السوداني كان منهكًا بسبب حرب أهلية بين الشمال والجنوب، استمرَّت حوالي عشرين عامًا، من العام 1983م وعام 2003م، وكان قطبها الجنوبي الأهم، الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون جارانج.
وفي وقت حكم البشير، كانت ميليشيات قوات الدعم السريع تُدار من جانب جهاز الأمن والمخابرات الوطني التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، بعد إعادة هيكلتها، والإعلان عنها رسميًّا كتشكيل تابع للجيش السوداني في أغسطس من العام 2013م.
أما البرهان، فهو في الأصل أحد قادة الجيش السوداني وقت حكم البشير. وكانت آخر مناصب تولَّاها في الجيش السوداني قبل الإطاحة بالبشير، رئيس أركان الجيش السوداني في فبراير من العام 2018م، قبل أن يشغلَ منصبَ المفتش العام للجيش.
بعد حل المجلس العسكري الانتقالي في الحادي والعشرين من أغسطس 2019م، تولى البرهان – الذي كان يرأسه – رئاسة المجلس السيادي السوداني، وكان نائبه في هذا المنصب، هو محمد حمدان دَجَلُو “حميدتي”.
قام البرهان وقتها بإعادة ترتيب أوضاعه مع تنظيم الإخوان في السودان، والذي كان لا يزال – بعد ثلاثين عامًا من الهيمنة على الدولة والمجتمع في عهد البشير – يسيطر على المراكز الكبرى في الجيش السوداني.
فكان أن قام في الفترة التالية مباشرة لوقف ترتيبات المرحلة الانتقالية، بالإفراج عن عدد من أركان وقيادات نظام الرئيس المخلوع عمر البشير من المحسوبين على الإخوان والتيار الديني المتشدد، ومن بينهم مدير الإعلام الأسبق بجهاز أمن النظام السابق، العميد محمد حامد تبيدي، والناطق باسم جهاز الأمن والمخابرات في عهد البشير، الشاذلي المادح، ومحمد علي الجزولي الذي يرتبط بتنظيم الدولة “داعش”.
بالإضافة إلى ذلك، عمل البشير على تعطيل لجنة تفكيك النظام الذي أفرزه الانقلاب الذي قاده البشير وشريكه حسن الترابي، زعيم الجبهة القومية الإسلامية في الثلاثين من يونيو من العام 1989م، أو ما يُعرَف بـ”لجنة إزالة التمكين”، والتي كانت مهمتها تطهير مؤسسات الدولة من بقايا حزب المؤتمر الوطني – حزب البشير – وتيار شريكه في انقلاب يونيو 1989م، حسن الترابي وحزبه المنشقّ عليه، المؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي في العام 1999م.
وهو ما أشارت أوساط المعارضة السودانية وقتها إلى أنها خطوة نحو إعادة إنتاج نظام البشير.
حميدتي وقتها اعترض على هذه الترتيبات من هذا المنطلق؛ لأنها تُعتَبر انقلابًا على ما تم الاتفاق عليه بعد ثورة 2019م، خاصة وأن استمرار المسار الانتقالي وقت حكومة عبد الله حَمَدُوك كان قد بدأ يؤتي ثماره، وكان من بين ذلك التخفيف من العقوبات التي كانت مفروضة على السودان، وبدء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في توجيه حزم مساعدات اقتصادية عاجلة إلى السودان.
ومن خلال مصادر خاصة عدة في السودان، بالإضافة إلى تقارير صحفية أمريكية وبريطانية؛ فإن تنظيم الإخوان في السودان، الذين يُعرَفون بمصطلح “الكيزان”، أو “كيزان الخير”، ضغطوا على البرهان من أجل إفراغ ترتيبات المرحلة الانتقالية من مضمونها، وإعادة تهيئة الأوضاع لصالحهم مجددًا بعد الإطاحة بالبشير.
فجاءت خطوة البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م؛ عندما وقع ما سُمِّىَ إعلاميُّا بـ”الانقلاب الثاني” الذي أوقف ترتيبات المرحلة الانتقالية، وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك، وتم اعتقال حَمَدُوك نفسه وأربعة آخرين من وزراء الحكومة الانتقالية، هم كل الوزراء المدنيين فيها.
في ذلك الحين، حاولت بعض الأطراف الإقليمية والدولية احتواء الموقف، إلا أن البرهان رفض الرجوع عن قراراته والمسار الجديد الذي وجه به الأمور في السودان.
فكانت بداية تمرد ميليشيات الدعم السريع، في الحادي عشر من أبريل 2023م، عندما بدأت في الانتشار بالقرب من مدينة مروي، وفي العاصمة الخرطوم نفسها، ورفضت طلبات القوات الحكومية منهم مغادرة هذه المناطق.
ثم بدأت الحرب بالاشتباكات التي وقعت عندما استولت قوات الدعم السريع على قاعدة “سوبا” العسكرية جنوب الخرطوم. في الثالث عشر من أبريل، ثم وقعت معركة “مَرَوِي” في الثالث والعشرين من أبريل، بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من أجل السيطرة على مدينة “مَرَوِي” ومطارها، الذي كانت يتمركز فيه أكثر من 200 جندي مصري، تم احتجازهم كأسرى حرب، قبل أن تنجح السلطات المصرية في إعادتهم إلى مصر.
وثمَّة نقطة مهمة هنا ينبغي إدراكها من جانب المتابعين والمُهتمِّين بالشأن السوداني، وهو أن موقف “حميدتي” يلقى قبولاً من طائفة واسعة من الأحزاب والقوى المدنية في السودان، مثل تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدُّم)، والقوى المدنية المتحدة (قِمَم)، والتي ترفض بالمطلق فكرة إعادة نظام البشير وعماده الأساسي، تنظيم الإخوان السوداني، وإلا فيمَ كانت الثورة التي راح ضحيتها آلاف من السودانيين.
هذه هي خلفية الصورة، أو الجزء الناقص منها الذي لا يتم تداوله في وسائل الإعلام، بالرغم من أنه صلب الأزمة الحالية في السودان، وهو الذي يجيب على السؤال الذي يطرحه المراقبون والمحللون السياسيون الذين يظهرون على شاشات الفضائيات، أو في المواقع الإخبارية، عن مستقبل الحرب في السودان.
الإرهاب والذهب والموانئ.. إطار إقليمي ودولي مُعَقَّد
لا ترتبط الحرب في السودان فحسب بالمشهد الداخلي المُعَقَّد والمُفَكَّك في السودان، وإنما يرتبط بالكثير من الأمور التي تمسُّ أمن الإقليم، ومسَّها ارتكاس البرهان على ترتيبات ما بعد البشير على هذا النحو.
وتصاعدت أهمية هذه الأمور وأولويتها لدى الكثير من دول المنطقة، ومنها مصر، ودول خليجية، كالإمارات والسعودية، بعد أحداث ما عُرِفَ بثورات “الربيع العربي”.
ومن بين أهم هذه القضايا قضية الإرهاب، ومنها مسألة محاصرة تنظيم الإخوان المسلمين عن المجال العام، السياسي والاجتماعي، في الدول العربية، بعد الدور الهدَّام الذي تكشَّف للجماعة وأذرعها المحلية في البلدان العربية، ومع ارتباط هذه المسألة بقضية الإرهاب، سواء بشكل عام، أو في ظل الدعم الذي ثبت تقديم الجماعة له في اكثر من بلد للجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة، أو قامت به الجماعة نفسها.
وفي حالة مصر، فإن تنظيم إخوان السودان احتضن عددًا كبيرًا من قيادات وعناصر الإخوان والجماعة الإسلامية الفارِّين من مصر بعد الإطاحة بنظام الإخوان في العام 2013م.
أما في حالة أطراف أخرى إقليمية ودولية، مثل الإمارات وروسيا، فإنه بجانب معارضة الإمارات لأية ترتيبات سياسية في الإقليم من شأنها تعزيز وجود تنظيم الإخوان أو إعادته إلى الواجهة؛ فإنها مع روسيا لهم مصالح كثيرة في السودان فيما يتعلق بمكامن الذهب الغنية في إقليم دارفور، وموانئ السودان على البحر الأحمر.
وفي الخلفية، يأتي الدور التركي الذي يدعم بطبيعة الحال، البرهان، حتى وإن استقبلت أنقرة “حميدتي” في وقت من الأوقات، إلا أن ارتباط البرهان بمصالح تنظيم الإخوان المسلمين في السودان، يحسم الموقف بالنسبة لتركيا أردوغان و”العدالة والتنمية” الذين ينتمون إلى تنظيم الإخوان العالمي.
وربما كان الموقف المصري والسعودي، كطرفَيْن إقليميَّيْن لهما تأثيرهما في المشهد السوداني، يحكمه في هذه الأزمة مسألة الشرعية، فبالرغم من عدم ترحيب كلا البلدَيْن بفكرة عودة تنظيم الإخوان إلى الواجهة في بلد جوار مثل السودان – السودان بلد جوار بحري قريب للغاية من السعودية، بما في ذلك موانئه الأهم على البحر الأحمر، وأبرزها جدة – إلا أن القاهرة والرياض فضَّلتا التعامل مع البرهان، أو بمعنىً أدق، الطرف الرسمي الذي في النهاية يمثل الدولة السودانية، حتى ولو كانت مهترئة.
ففي النهاية، فإن ميليشيات الدعم السريع، هي طرف مارق بالمعنى القانوني على سلطة الدولة، بينما القوات المسلحة السودانية، أيًّا كان تركيبها وهوية الشخصيات التي تسيطر عليها، هي مؤسسة رسمية، تمثل الدولة السودانية، وهي – أيضًا – التي لا تزال للآن قادرةً على ضبط أمن الحدود مع البلدَيْن؛ البرية مع مصر، والبحرية مع السعودية.
الحقيقة، أن ما سبق يُعتَبَر رؤوس موضوعات فقط لقضايا شديدة الأهمية والتعقيد ترتبط بها الحرب الأهلية في السودان، فهناك الدور الغربي المعطِّل لأية تسوية في السودان؛ الذي يُعتَبر مخطط تقسيمه بالأصل، أحد أقدم المخططات التي بدأها الاستعمار البريطاني في المنطقة العربية لتفكيك المركزيات الكبرى فيها، منذ احتلاله في ثمانينيات القرن التاسع عشر.
وعلى عدم إعلاء أيِّ طَرَف من طَرَفَيْ الحرب في السودان لمصالح البلاد القومية على حساب مصالحه الشخصية، والتي فيها جانب اقتصادي يُقَدَّر بالمليارات من عوائد ذهب دارفور، وموانئ البحر الأحمر، فإن العامل الإقليمي والدولي يظل حاكمًا.
وبما أن الأطراف الداخلية، والإقليمية والدولية – ربما باستثناء مصر التي ترغب في توقف الحرب، على الأقل لوقف موجات الهجرة عبر حدودها الجنوبية – تَعتَبِر الحرب في السودان، معركة صفرية، إما كل شيء أو لا شيء؛ فإن ذلك يعني بالتأكيد عدم وجود أي أفق قريب، أو حتى متوسط المدى لمعالجة الأزمة المُستحكَمَة في السودان.
ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن السودان في الأصل، ممزق داخليًّا بشكل لا يتصوره المتابِعين من الخارج، فهناك ألف جبهة تمثل ألف إقليم داخل السودان، وتسعى إلى الانفصال، فهناك دارفور بفصائلها، وشرق السودان بقبائلها، وتنسيقياتها المتعددة، وأهمها البَجَّة، بالإضافة إلى منطقة أعالي النيل، وأعالي النوبة، وكلها فيها أحزاب وميليشيات ترغب في الاستقلال بقرارها.
وفي ظل هذا الوضع؛ بالتأكيد لا يمكن الحديث في الأصل عن فكرة سلام مُستدام في السودان، ولكن قد يكون لهذا موضع آخر للحديث.