أحمد التلاوي يكتب: الأمن المجتمعي وما ينبغي على الدولة إدراكه في مصر
شُغِلَت في الفترة الأخيرة الكثير من الدوائر السياسية والإعلامية، وحتى الأمنية بطبيعة الحال، بتطورات الحدث الكبير في سوريا، والذي طَرَح الكثير من التحديات التي تمس الأمن القومي المصري والإقليمي.
وبشكل عام؛ فإن تطورات الأحداث في العالم العربي، وعلى وجه الخصوص دول الجوار الحيوي المصري، مثل ليبيا والسودان وسوريا والعراق، تحظى بالكثير من الاهتمام من مختلف الأطراف.
تركزت النقاشات على مسألة الأمن والأمان في مصر، نظير ما نراه من فوضى واضطرابات أمنية واسعة، تصل إلى مستوى الحرب الأهلية، والتدخلات العسكرية الخارجية، مما قاد إلى تقسيم حقيقي للدولة الوطنية “Nation State”.
إلا أن الطَّرْح المُقَدَّم في هذا الأمر، وقد غَلَبَتْهُ الحماسة على حساب المنطق السليم، والرؤية الصحيحة للأمور، والتي من بين عناصر صحتها، أنْ تكون شاملة، وموضوعية؛ بعيدًا عن أية تحيُّزات مُسبَقة، أو تأثيرات الانتماء؛ جانبها الكثير من الصواب، واعتوَرَها الكثير من معالم النقص.
بكل تأكيد؛ فإن عنصر الأمن والأمان بمفهوم الأمن العام أو الأمن الجنائي كما هو في الصورة الذهنية للناس، وما يرتبط به من صور تقليدية عن “السَّيْر في الشوارع بأمان” و”إمكان اقتضاء الإنسان لحاجاته اليومية في أي وقت من اليوم”؛ نقول إن ذلك شيء مهم، بل وشديد الأهمية بالفعل، إلَّا أنه ليس هو كل شيء.
وعندما نقول “ليس كل شيء”؛ فهذا ليس حُكْمًا شخصيًّا، أو رؤية ذاتية للأمور، وإنما العلم هو الذي يقول بذلك.
فبالنظر إلى أحد أشهر النماذج الموضوعة في علوم الاجتماع والاقتصاد على حد سواء، وهو هرم “ماسلو” للاحتياجات الإنسانية، الذي وضعه عالم النفس والاجتماع الأمريكي أبراهام ماسلو (1908م – 1970م)، سوف نقف على خمس مراتب للاحتياجات الإنسانية.
تبدأ، ويؤكد ماسلو على مركزيتها، بالاحتياجات الفسيولوجية، وهي التنفس والغذاء والماء والإخراج والنوم والجنس أو الجِمَاع، ثم بعد ذلك احتياجات الأمان، والتي تشمل السلامة الجسدية والأمان الأُسَرِيَّ والصحي والوظيفي، ثم الاحتياجات الاجتماعية، وتشمل الصداقة والعلاقات الحميمية والأُسَرِيَّة.
إذًا، فاعتبارات “الأمن والأمان”، لا تشمل السلامة الجسدية فحسب، وإنما فيها جانب كبير متعلق بحياة الإنسان الاجتماعية، بما في ذلك اطمئنانه على مستقبله الوظيفي والأُسَرِيِّ.
وفق هذه الرؤية، فإن الأمن الغذائي، شطر “الأمن والأمان”، والأمن الوظيفي، والأمان الأُسَريُّ، شطر “الأمن والأمان”.
وحتى الجوانب النفسية؛ موجودة في هذه الاعتبارات الأوسع نطاقًا، والتي من المهم أنْ تكون في عين اعتبار القائمين على الحكم في أي دولة، والسلطات الحاكمة لأي مجتمع.
وبالتالي، فإن معيار “الأمن والأمان” بالصورة القريبة المسطحة التي يطرحها البعض في مصر، نظير ما يجري في البلدان الأخرى، وأنه يجب – عند المواطنين – أنْ يَجُبَّ أيَّة اعتبارات خاصة بمشكلات المعيشة والفقر الذي يعانون منه، هو طَرْح لا يمكن قبوله، بل ومن الخطأ والخطر قبوله.
فهذا الاجتزاء، وهذه النظرة الأحادية، قد تصرف نظر الدولة بمعنى مؤسسات الحكم، وبالذات المؤسسات التنفيذية، التي هي من صميم عملها الاحتكاك المباشر بقضايا ومشكلات، واحتياجات المواطن، عن الكثير من المشكلات والأزمات المُلِحَّة، والتي قد تقود أصلاً إلى ذات ما يتخوَّف منه أصحاب هذا الطَّرْح، وهو الفوضى والاضطرابات الاجتماعية والسياسية والأمنية، طويلة المدى، واسعة النطاق.
صحيح أن هناك خصوصية للحالة المصرية، فيما يتعلَّق بطبيعة العلاقة بين الدولة كسلطة، ومؤسسات، وحُكم، وبين الشعب / المحكومين، والذين هم شطر الدولة الثاني، وكذلك خصوصية نظرة المواطن للدولة، وتعامله معها.
وهي خصوصية انبَنَت عبر آلاف السنين التي مَضَت من عُمر الدولة المصرية.. إلا أن هذا لا ينبغي له أنْ يُؤخَذ على إطلاقه، في ظل تغيُّرات المفاهيم، التي قادت إليها تطورات العصر الرَّقْمِي الذي نحياه، وما قادت إليه من تحولات كبيرة في طبيعة المجتمع نفسه، وطبيعة وحدة البناء الأساسية حجر فيه، وهو الفرد، ونظرته للأمور، وتعامله معها.
فبالتأكيد المصري المعاصر، الحداثي، على وجه الخصوص، مختلف تمامًا عن المصري منذ حتى نصف قرن فقط مضت، وعن طبيعة المصريين بشكل عام.
لم يختلف كل المصريين بالطبع، ولا يزال الغالبية العظمى منهم كما كان الآباء والأجداد، وبالذات شريحة الحَضَر الريفي، ولكن هناك شريحة مُعتَبَرة من المصريين، والذين يعيشون في الغالب في الحَضَر المديني، في القاهرة الكبرى، وفي عواصم الأقاليم، فارقت الهوية التقليدية للمصريين، وصارت لهم أولويات أخرى، وتصورات أخرى لكافة الأمور، وبالتالي، طرائق التعامل معها.
وكان للنزعة الاستهلاكية، والإعلام العشوائي، الاستهلاكي بدَوْره، الذي رسَّخ الكثير من القِيَم البعيدة كل البُعد عن الهوية المصرية التقليدية، الأصيلة والراسخة؛ كان له دَوْرٌ كَبيرٌ في ذلك.
كما أن هذه النظرة السطحية، الأقرب إلى النظر لمفهوم الأمن بشكل يقترب من مستوى الطفولية الساذجة، لا نقف فيه على كفاءة تامة من أجهزة الدولة المعنية به، مثل الأجهزة الأمنية الشُّرَطِيَّة المدنية؛ حيث هناك قصور في تغطية كافة أركان هذا الجانب الواحد من مفهوم “الأمن والأمان”.
فهناك ارتفاع لا يمكن إنكاره، وتتحدث حتى عنه الحكومة ومؤسساتها ذاتها، بما في ذلك اجهزة وزارة الداخلية ومراكز مثل “المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية”، ونجده أيضًا في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، في الجرائم الناجمة عن غياب بعض أشكال الأمان بالمعنى الواسع الذي ذكرناه، كالفقر وغياب رؤية واضحة للمستقبل، مثل جرائم القتل والسرقة والاغتصاب، وارتفاع مستويات الإدمان على المخدرات، وارتفاع معدلات الهجرة، والتي تعني تفريغ المجتمع من كفاءات هو أحوَج ما يكون لها في مرحلة إعادة البناء الحالية.
ومما لا يمكن إنكاره أيضًا أن بعض سياسات الدولة نفسها، تحت وطأة تأثير عدد من العوامل الاقتصادية المهمة، مثل إعادة الهيكلة الضرورية للاقتصاد القومي، وأيضًا باعتراف مؤسسات الدولة نفسها؛ لا سياسات أعدائنا وخططهم الهدَّامة، كان لها دور في مثل هذه الظواهر الجنائية بالدرجة الأولى. أي أن الاجتماعي والاقتصادي، قاد إلى المساس بالأمن الجنائي، الذي نفخر به أمام العالم، في مصر.
صفوة القول في هذا الإطار، إن مفهوم الأمن الشامل الذي يتضمن الأمن المجتمعي، هو أحد أهم أركان الأمن القومي لجهة اتصاله بقضية العقد الاجتماعي بين مؤسسات الدولة الرسمية والمواطنين، وما يرتبط بذلك بشأن الاستقرار الداخلي، والذي نجاهد جميعًا، بمَن فينا أصحاب هذه النظرة الضيقة لفهوم الأمن، للحفاظ عليه.
كذلك، وتمتين العلاقة بين المواطن وبين مؤسساته، ولا نقول مؤسسات الدولة؛ حيث ينبغي على المواطن أنْ يقتنع بأنها – وهي كذلك بالفعل – مؤسساته، وليست عَدُوَّةً له، كما يحاول البعض إقناعه بذلك، وبالتالي؛ يكون هو أول سلاح في الدفاع عنها.