كتب: أحمد نشأت
سُمي الفن لأنه يبعث الروح من جديد، سحر لا مثيل له ، يستأذن عقلك في الدخول ثم يتجول داخل مشاعرك.
وها نحن أمام حالة فنية مثيرة للجدل مابين فيلم سينمائي يهاجم ” مصر ” أو لا يهاجم.
وأكيدٌ أنا مثل الكثيرين، أن ” مصر ” لا يليق بنا أن يزج باسمها في مقارنة مثل تلك..
ببساطة لأن الفيلم حتى لو سياسي من الدرجة الأولى فهو يصف أوضاع معينة وحالات فردية متعددة، مع استحالة أن يصف دولة عظيمة بحجم ” مصر” في عدة دقائق، مهما طالت.
ودعوني أسرد لكم ما رأيته بعين ناقد وصحفي ووجهة نظر شخصية:
يبدأ الفيلم بمشهد مظلم مع صوت بكاء لشخص ما ثم عود ثقاب يشتعل ليضيء الشاشة وهو يحترق ويصرخ حتى يصبح جثة هامدة ” استدعاء صريح لمشهد محمد البوعزيزي الذي أشعل ثورة تونس اعتراضاً على حال فقره”
ثم يبدأ تتر الفيلم ونرى أسرة في مساكن قديمة بجوار أحد المصانع التي لا يظهر نشاطها بشكل مباشر ودعونا نقول أنها مصانع للأسمنت.
بيت شديد الفقر كل مافيه من الخردوات رجل وزوجته معهم ولدان صغيران وطفل رضيع، الزوجة تظهر خانعة ومنكسرة ولا تحاول حتى رفع عينها من الأرض.
الزوج رجل “ذكوري” يأمر دون حوار أو نقاش، مدخن شره برغم فقرهم الشديد، يعطي لزوجته بضع جنيهات قائلا “النهاردة وبكرة بتنجان مش عايز لخبطة”.
وهنا تظهر لأول مرة النقود المصرية “الرثة” مع استمرار ظهورها بنفس القبح وبنفس خامة الأوراق المستهلكة والمتسخة في بعض الاحيان ” اما دلالة على فقد قيمتها كعملة مصرفية بلا قيمة، أو أن الاقتصاد بأكمله بنفس جودة الأوراق الظاهرة في الفيلم” .
ثم يقرر رب الأسرة الفقيرة الاحتفال بعيد ميلاد ابنه ومن ضمن فقرات عيد الميلاد “فقرة الساحر” الذي يحول كل شيء في يده إلى شيء مبهج أو غريب، ولكنه قرر ادخال الاب في صندوق خشبي وتحويله لفرخة بيضاء ولم يستطع استعادته .. فيظل رب الأسرة فرخة لا حول لها ولا قوة ” في اشارة للرجل الذكوري بالضعف وقلة الحيلة وتشبيه صوته بها” .
تدور الاحداث في قالب ممل ورتيب بين شخصيات أشبه بمجتمع معاق ذهنيا، لا يتحدث ولا يحاول التعبير بشكل صريح عن ما يريد بل ويتمتم أحيانا بعبارات غير مفهومة وخاصة عندما يجتمع أصدقاء رب الأسرة في محاولة منهم لمساعدة الزوجة لاستعادته ” وكأنها اشارة واضحة أن الفقر جعل منهم أشخاصا ليس لهم شخصية ولا هوية محددة ”
تحاول أن تبلغ عن اختفاء زوجها فيطردها الشخص المسؤول عن الأمن الذي لم يحدد المخرج هويته عمدا ولا شكله ولا ما يرتديه بالاضافة أن مكان التبليغ – قسم الشرطة – شكله سيء ومهمل للغاية.
تمرض الفرخة وتحاول نجدتها عن طريق طبيب بيطري فيطلب منها 300 جنيه فتتصل بصديق زوجها لاقتراض المبلغ منه.
تنتظر الزوجة في العيادة البيطرية حتى يأتي صديق زوجها ويظهر مشهد مريب عندما يمشي حمار أمام بقرة أو ثور كبير ويقرر الثور أن يقفر على الحمار ليجامعه.
تتتوالى المشاهد حتى يحاول صديق الزوج التحرش بزوجة صديقه فتضربه وتهرب ” وكأنه مجتمع مليء بالهياج الجنسي حيوانات كانوا أو بشر”
لا تزال الزوجة منكسة الرأس عينيها لا ترى إلا تحت قدميها فقط شاحبة الوجه لا تبتسم حتى في عيد ميلاد ابنها.
تحاول البحث عن عمل حتى تجد بيتا ثريا تعمل فيه خادمة، ولكنها تسرق بعض قطع اللحم ويكشف أمرها وتطرد ولا تجد ملجأً إلا العودة لصديق زوجها، فتظهر في سيارته في مكان خلاء وهو يغني ومبتسم .. ” نهاية متوقعة وكيليشيه لفقيرة ضحت بشرفها من أجل المال”
ثم تظهر لأول مرة مبتسمة وسعيدة -وكأن خطيئتها سبب سعادتها- في مطعم عتيق مليء بالرجال يرقصون على موسيقى من وحي الثمانينات ورجل يرقص حول الزوجة وكأنه راقصة محترفة.
تمر الأحداث بنفس الرتابة والبطئ المقصود .. ” كأنه مجتمع خامل وممل وليس له قيمة ولا هدف ولا يعرف معنى الوقت”
تجد زوجها مشردا وملقيا في قسم الشرطة وكأنهم يعاملون جيفة ميتة ..” وكأن الشرطة جهاز خرب لا يعمل بل ومتهم بالاهمال، حتى وان وجد مشردا مليء بالامراض ظل ملقيا على ظهره على ارض القسم دون ادنى رعاية او اهتمام”
تحاول الزوجة جاهدة علاجه وتذهب لعيادة المصنع الذي كان يعمل فيه زوجها فتجد رد الروتين: استني كام شهر لما نبعت التقرير الطبي للادارة المركزية ونبقى نطلعلك معاشه.
فتخرج في قمة اليأس من أمام شعار الصيدلية المغطى بالاتربة والوانه الباهته.. ” في رمزية بأن الصحة ردمت بالتراب وبهتت واصبحت بلا قيمة”
ولا تجد خلاصا في نهاية المطاف لعدم قدرتها على علاجه او ايداعه في مستشفى، إلا قرار أن تقتله وتضع فوق رأسه وسادة وتخنقه حتى الموت..
يبدأ الفيلم بشخص غير معروف يحرق نفسه وسط المصنع .. وينتهي ايضا بموت رب الأسرة الفقير ..
هكذا هي رسالة فيلم ريش .. الموت للفقير .. حرقا أو خنقا حتى الموت.
فهل تم تكريم الفيلم ومخرجه واهداءه جائزة لابداعه في تحقير الفقراء وذلهم أم لوصف حالة من الفقر بصدق واخلاص لكي يبعث رسالة الفن البديع للفقير بأنك ميت ميت لا محالة ولا مجال للأمل أو النجاح أو حتى التفكير في ” حياة كريمة “.