إعداد: أحمد التلاوي
قبل عدة سنوات، تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من موضع وموقف، ومنها مؤتمرات حزبه “العدالة والتنمية”، صراحة عن هوية تركيا العثمانية، وأهمية وضرورة استعادة الإرث العثماني في المنطقة.
ثم ترافق ذلك مع أحاديثه عن نية تركيا إعادة النظر في اتفاقية تُعرَف باتفاقية “لوزان”، المُوَقَّعة في الرابع والعشرين من يوليو عام 1923م، والتي أسست فعليًّا الجمهورية التركية على حدودها الحالية، مُعتَبِرًا إيَّاها قد ظلمت بلاده في الكثير من “حقوقها”.
في 2016م، وأمام حشد من الساسة الأتراك، انتقد أردوغان علانية للمرة الأولى، تلك المعاهدة، ثم، وفي ديسمبر 2017م، وخلال زيارة كانت الأولى لرئيس تركي إلى أثينا منذ 65 عامًا، قال أردوغان إن المعاهدة التي لم يتم تطبيقها بشكل عادل”، واتهم اليونان بعدم الالتزام بالمعاهدة فيما يتعلق بمعاملة الأقلية المسلمة هناك؛ عندما منعت أثينا للمسلمين هناك باختيار مُفتيهم الديني.
والحقيقة أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، بحيث فيه – حرفيًّا – تفسير السياسات التركية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وحتى أزمة الأويجور الترك، في تركستان الشرقية الصينية، منذ تولي أردوغان وحزبه السلطة في العام 2002م.
قدَّم أردوغان نفسه وحزبه في تركيا كنموذج مغاير للصورة التقليدية للإسلاميين، وحَظِيَ بدعم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومن وراءه الغرب الأنجلو أمريكي الذي كان قد بدأ قبل عقود طويلة في وضع بذرة مخطط الفوضى الهدَّامة في الشرق الأوسط الكبير، من خلال تنشيط / إضعاف المتناقضات الموجودة في هذه المنطقة، من أجل إدخالها في حالة طويلة الأمد من الفوضى والاضطرابات.
وتكشف الكثير من الوثائق البريطانية المفرَج عنها في السنوات الماضية بموجب القوانين الخاصة بوثائق الدولة بدرجات سريتها المختلفة، كيف أن بذور هذا المخطط، تم وضعه قبل ما يقرب من قرن ونصف، خلال فترة الاستعمار البريطاني الطويلة في الشرق الأوسط الكبير الذي يضم العالم العربي وأجزاء واسعة من العالم الإسلامي، منذ “اللعبة الكبرى” في أفغانستان في القرن التاسع عشر، على حسب وصف المؤرخ البريطاني مايكل سميث.
وكانت القبلية والطائفية، والديني مقابل القومي، من بين أهم ما لعبت ولا تزال تلعب عليه الخطط الأنجلو أمريكية في منطقتنا، من أجل تحقيق الهدف الدائم، وهو “شرق أوسط غير مستقر”.
إلا أن الوجه الإسلامي الحداثي الذي قدمه أردوغان لنفسه، ولحزبه، كان يخفي جانبًا آخر، قوميًّا، يستغل الدين والعاطفة الدينية، من أجل حشد الأتباع وراء مشروعه الخاص، والذي يحمل هوية تركية ظلت الدولة العثمانية تحاول إخفاءها خلف شعارات الخلافة والفتوحات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وفي شمال إفريقيا وشرق أوروبا، وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها الإمبراطورية العثمانية.
المفترض أن الدولة العثمانية انتهت فعليًّا الأول من نوفمبر من العام 1922م، عندما ألغى البرلمان التركي في أنقرة السلطنة رسميًا، ثم إعلان الجمهورية في التاسع والعشرين من أكتوبر من العام 1923م، إلا أننا الآن، وبعد مائة عام من هذه الأحداث نقف على محاولات استعادة هذا الإرث الدموي طيلة تاريخه الذي حفل بالكثير من الخيانات، والتي تعود – الدماء والخيانات – لكي تُطِلُّ برأسها، وتمسُّ الأمن القومي للإقليم بالكامل، ودوله، ومنها مصر.
فما هي قصة أردوغان العثماني ومعاهدة لوزان التي لا تزال تتحكم في الكثير من التطورات في عالمنا العربي والمنطقة بالكامل؟
عودة بالتاريخ إلى الوراء
تُرسَم الخرائط الجيوسياسية وحركة الجماعات البشرية إما بالبحث عن الموارد أو بالحروب.. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها؛ حيث تؤكدها حوادث التاريخ.
وكان أبرز ما تأثرت به المنطقة في هذا الصدد، الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، والاتفاقيات والمعاهدات التي وقَّعتها القوى المنتصرة فيها مع بعضها البعض من أجل تسوية الأوضاع ما بعد الحرب.
من هذه الزاوية، كانت الحرب العالمية الأولى هي الأكثر تأثيرًا، وإلى الآن، على العالم العربي.
فكل الاتفاقيات والمعاهدات المهمة التي رسمت الحدود والخرائط في المنطقة، كانت في الدائرة الزمنية المحيطة بالحرب العالمية الأولى، قُبَيْل الحرب، وأثناءها وبعدها، ومنها اتفاقية “سايكس – بيكو”، في العام 1916م واتفاقية “فرساي” التي أنهت الحرب العالمية الأولى في العام 1918م، والتي كانت الدولة العثمانية في الجانب المهزوم فيها، مما رتَّب عليها دفع أثمان كتلك التي دفعتها ألمانيا الإمبراطورية وقتها.
ولقد رسم مصير الدولة العثمانية على وجه الخصوص من بين كل الاتفاقيات والمعاهدات التي عُقِدَت في العقدَيْن الثاني والثالث من القرن العشرين، أربع من هذه الاتفاقيات والمعاهدات؛ حيث سوف نجد فيها أسماء بلدان ومناطق دائمًا ما يرددها أردوغان في تصريحاته، أو في سياساته التوسعية في المنطقة، والتي يقوم بها تارة بأدوات الحرب، وتارة بأدوات الاقتصاد والتأثير السياسي، وبخاصة أذرع تنظيم الإخوان في البلدان المعنية.
أول هذه الاتفاقيات أو المعاهدات، معاهدة “أوشي”، والتي عُرِفَت بعد ذلك بمعاهدة “لوزان الأولى”، وهي معاهدة وقعتها مملكة إيطاليا – وقتها – والدولة العثمانية، عقب الحرب العثمانية الإيطالية في العامَيْن 1911م و1912م، واسمها مأخوذ من اسم قلعة “أوشي” في ضاحية “أوشي”، وهي من ضواحي مدينة لوزان السويسرية، في الثالث من أكتوبر من العام 1912م.
بموجب هذه الاتفاقية، انسحبت الدولة العثمانية من ليبيا لحساب الاستعمار الإيطالي.
إلا أن تركيا حصلت بموجب هذه المعاهدة على امتيازات في ليبيا، وموافقة الحكومة الإيطالية على أن يُعيِّن السلطان العثماني القضاة في بنغازي وطرابلس، ولكن مع التزامه بمنح الاستقلال الذاتي وسحب جميع الجنود والضباط والموظفين العثمانيين من المدينتَيْن (المادة “10”).
المعاهدة الثانية، هي معاهدة “سيفر”، وتم التوقيع عليها في العاشر من أغسطس من العام 1920م، من جانب دول المحور التي خسرت الحرب العالمية الأولى.
وفيما يخص الدولة العثمانية، تضمنت الاتفاقية تخليها عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، إضافة إلى استيلاء الحلفاء على أراض تركية، استكمالاً لاتفاقية “سايكس – بيكو”؛ حيث تم الاتفاق على تقسيم بلاد الشام والمشرق العربي، بحيث تخضع فلسطين والعراق وإمارة شرق الأردن – المملكة الأردنية الهاشمية بعد ذلك – للانتداب البريطاني، بينما تخضع سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي.
ثم جاءت معاهدة “لوزان”، أو “لوزان الثانية”، في يوليو 1923م، وأَلْغَت معاهدة “سيفر” السابقة؛ حيث تم بموجب المعاهدةِ الجديدة تسوية نهائية لوضع مناطق الأناضولِ وتراقيا الشرقيةِ – التي تمثل القسم الأوروبي من تركيا الآن – في الدولةِ العثمانيةِ.
ليبيا وقبرص وغاز شرق المتوسط
جاءت معاهدة “لوزان الثانية” نتيجة لحرب الاستقلال التركية، والتي قادتها “الحركة القومية التركية” بقيادة مصطفى كمال أتاتورك؛ حيث أُقيمت الجمهورية التركية على أراضي الأناضول وتراقيا الشرقية، بينما ذهبت تراقيا الغربية إلى اليونان وتراقيا الشمالية إلى بلغاريا.
ونصل هنا – كما وصلنا في اتفاقية “أوشي” – إلى أسماء بعض المناطق التي يرددها أردوغان كثيرًا، ويجدها من حق تركيا، وهي جزرِ بحر إيجة التي كانت من نصيب اليونان، ومنها جزر “الدوديكانيز” (المادة الخامسة عشرة من المعاهدة).
هذه الجزر بموجب القواعد المعمول بها في القانون الدولي، قريبة من الجرف القاري لتركيا عنها إلى اليونان، ولكن الخطأ الذي وقعت فيه “الحركة القومية التركية” وقتها، هو أنها فضَّلت الحصول على سيادة الجمهورية الوليدة على أراضي الأناضول وجزء من إقليم تراقيا نظير التخلي عن هذه الجزر.
ظهرت أهمية هذه الجزر بعد اكتشاف مكامن الغاز الضخمة في منطقة شرق المتوسط، والتي حُرِمَت منها تركيا بالتالي، في ظل أن حدودها البحرية لا تتجاوز منطقة ضيقة داخل البحر المتوسط، أمام السواحل التركية مباشرة.
ومن هنا نفهم بعض السياسات التي تبنَّتها تركيا في السنوات الأخيرة، مثل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية، التي وقعتها الحكومة التركية مع ما يُعرَف بحكومة الوفاق الوطني الليبية، في السابع والعشرين من نوفمبر 2019م، من أجل الحصول على موطئ قدم في مكامن الغاز شرق البحر المتوسط.
وهنا من الضروري أن نشير إلى تركيا الجمهورية تنازلتْ بموجب المادة “22” من معاهدة “لوزان الثانية” عنِ الامتيازات التي كانت ممنوحة للدولة العثمانية في ليبيَا بموجب المادة العاشرة من معاهدةِ “أوشي” على النحو المُشار إليه.
وطوال سنوات ما بعد فوضى “الربيع العربي”، عمل أردوغان على مساندة الميليشيات المسلحة في ليبيا، وقدم لهم الدعم اللوجستي والمقاتلين من سوريا وجنسيات أخرى، وكل ذلك من أجل استعادة تلك المناطق المذكورة في معاهدة “لوزان الثانية”؛ مدن الساحل الليبي على البحر المتوسط.
وكما نعلم، فقد استطاعت مصر وقف إجراءات أردوغان هذه، سواء في البحر المتوسط؛ عندما قامت القيادة السياسية والعسكرية المصرية بتحديث القوات البحرية المصرية، أو في ليبيا، من خلال عمليات مباشرة قامت بها القوات المسلحة المصرية وأجهزتها الأمنية العسكرية والمدنية، أو من خلال دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
ومن هنا أيضًا يظهر الوجه القومي التركي لأردوغان وحكومته، والمختفي خلف القناع الإسلامي الأممي، ففي معاهدة “لوزان الثانية”، تنازلت الدولة العثمانية عن قبرص (المادة “20”).
إلا أنه عندما وقع انقلاب العام 1974م، في قبرص، بإيعاز من المجلس العسكري الحاكم في اليونان، تدخلت تركيا عسكريًّا في قبرص، في يوليو من ذلك العام، وانتهت تلك العملية بتقسيم الجزيرة إلى شطرَيْن، وأقامت تركيا – العلمانية الأتاتوركية وقتها؛ حيث كان حزب “الشعب الجمهوري” الأتاتوركي العلماني يحكم البلاد وقتها – دولة غير مُعتَرَف بها في الجزيرة.
فهو – إذًا – يسير على خطى الحكومات الكمالية التي تولت الحكم في تركيا خلال العقود التي تلت التأسيس.
بل كان أكثر ديناميكية من الكماليين في مسألة إحياء رابطة الدول الناطقة بالتركية، أو تلك التي توجد فيها قوميات تركية، ولعلنا نذكر موقفه من أزمة أذربيجان مع أرمينيا حول إقليم ناجورنو كاراباخ (أو “قُرة باغ” بالتركية)؛ حيث حرَّك جيوشه، التي لم يحركها لأجل قضية فلسطين أو القدس المحتلة!
وبالعودة إلى معاهدة “لوزان الثانية”، والتي تفسر ترتيباتها سلوك أردوغان في الإقليم، فإن المعاهدة عندما رسمت حدود عدة بلدان على النحو الذي أشرنا إليه، منها تركيا نفسها، شملت أيضًا إقرارًا من الحكومة الجمهورية الجديدة بالتخلي عن مصر التي كانت وقتها تحت الانتداب (الاحتلال) البريطاني، والسودانِ الذي كان تحتَ الحكمِ البريطاني – المصري المشترك (المادة “17”).
شمال سوريا والأطماع التركية فيها
الأطماع التركية الأردوغانية في الأراضي السورية، والتي تتضمن مناطق الشمال السوري، في إدلب وحلب والمناطق التي يسكنها الأكراد، وهي المناطق التي كانت معروفة في الماضي بـ”قيليقيا العربية”، نجدها في اتفاقية أخرى، وهي اتفاقية “أنقرة” الموقعة في العشرين من أكتوبر من العام 1921م، بين فرنسا كممثل عن سوريا، كدولة انتداب، والدولة العثمانية.
في تلك الاتفاقية تنازلت الدولة العثمانية بموجب البند الأول من المادة الثالثة منها، عن تلك المناطق، قيليقيا العربية، والتي كانت تابعةً في الماضي لولايات تركية، وهي أضنةَ وديار بكر، وحتى حلب نفسها، كانت تعتبر تركية وقت الدولة العثمانية، وسائر مُتَصَرِّفِيَّةِ الزُّور والتي كانت تضم مدن ومناطقَ مَرْسين وطرسوس، بالإضافة إلى مدن ومناطق تقع في تركيا حاليًا، مثل أضنة وغازي عِنْتَاب وكِلِّسَ (أو كيليس)، وكهرمان مرعش وأورفا وبيرة جك وحرَّان وماردين ونُصَيْبين، بالإضافة إلى جزيرةَ “ابن عمر”.
الموصل وخطة “داعش”!
بموجب معاهدة “لوزان الثانية” تخلَّت تركيا أيضًا عن الكثير من مناطق سيطرة ونفوذ الدولة العثمانية، في اليمن وعسير والحجاز بما فيها المدينة المنورة (لم تكن المملكة العربية السعودية وقتها، أو حتى مملكة نجد والحجاز وملحقاتها، قد تم إعلانها على مناطق الحجاز وعسير في شبه الجزيرة العربية)، بالإضافة إلى مناطق في شمال العراق، وأهمها الموصل.
ونقف هنا على موضوع شديد الأهمية ظهر في السنوات الأخيرة فيما يعزز من بيان الصورة الحقيقية لأطماع أردوغان في العالم العربي، في مناطق السيطرة العثمانية السابقة، وهي المتعلقة بالموصل.
كانت الموصل هي أولى المدن الكبرى التي سقطت في أيدي تنظيم ما يُعرَف بـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” الذي أصبح بعد ذلك “تنظيم الدولة الإسلامية” والمعروف اختصارًا بـ”داعش”، وهي الحروف الأولى من اسمه الأول.
وكانت مسألة توظيف تنظيم “داعش” لخدمة أهداف تركيا في المنطقة، شمال العراق وشمال وشرق سوريا، فكرة تم تداولها في منزل أحمد داوود أوغلو، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب وزير خارجية تركيا، وأحد أبرز منظِّري منظومة “العدالة والتنمية” الحالية في تركيا.
تلقى “داعش” الذي اجتاح الموصل في يونيو من العام 2014م، بمعاونة بعض العشائر السُّنِّيَّة العراقية، ثم بعض المناطق السابق الإشارة إليها، والتي خسرتها تركيا الجمهورية بموجب معاهدة “لوزان الثانية” في شرق سوريا، الدعم المباشر من الدولة العميقة التركية، حتى بعيدًا عن مؤسسات الدولة الأخرى.
كشف ذلك قضية صحفيَّيْ صحيفة “جمهورييت” التركية المعارِضة. ففي نوفمبر من العام 2015م، اعتُقِلَ جان دوندار رئيس تحرير صحيفة “جمهورييت” وأردم جول مدير مكتب الصحيفة في أنقرة، بتُهم عديدة، منها “التجسس” و”كشف اسرار دولة”، بالإضافة إلى “محاولة القيام بانقلاب” و”مساعدة تنظيم ارهابي”،
كان ذلك على إثر نشرهما، في مايو 2015م، صورًا وشريطًا مصوَّرًا يظهر اعتراض الشرطة المدنية التركية لشاحنات تعود الى الاستخبارات التركية وهي تنقل أسلحة للتنظيم الإرهابي، في يناير من العام 2014م، عبر الحدود التركية السورية.
ثم كان ما كان بعد هذه الواقعة، تهريب الأسلحة التركية لـ”داعش”، اجتياح التنظيم للموصل، وهو – كما نلاحظ – ذات السيناريو الذي اعتمده الأتراك في سوريا بدءًا من السابع والعشرين من نوفمبر الماضي!
وتعود قصة ارتباط الموصل بالدولة العثمانية إلى العام 1534م؛ حيث دخلت تحت السيطرة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني، تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ حيث باتت محل أطماع الغرب بعد اكتشاف النفط في شمال العراق، ومنها مكامن النفط في الموصل.
استولت فرنسا، ثم بريطانيا على الموصل فعليًّا بعد الحرب، بموجب ترتيبات “سايكس – بيكو” و”فرساي”، ثم وقَّعت تركيا الجمهورية على معاهدة “لوزان الثانية”، التي تخلت بمقتضاها عن مناطق سيطرتها في شمال العراق.
أردوغان الجبان بين الضعف العربي وقوة الغرب
من خلال التطواف التاريخي السابق، ومن خلال ما نقف عليه من الأخبار والتقارير الصحفية التي تترى عن السياسات التركية منذ اندلاع الفوضى في الإقليم، نلاحظ كيف أن أردوغان يتصرف بكل استئساد عندما يتعلق الأمر بطرف ضعيف، بينما يقف عاجزًا أمام القوى الأكبر منه.
فهو لم يتدخل في موضوع إقليم ناجورنو كاراباخ إلا في العام 2023م، بعدما سحبت روسيا المنشغلة في حرب أوكرانيا حمايتها عن أرمينيا، بينما تسيطر أرمينيا على الإقليم منذ العام 1988م.
أيضًا في هذا الموضوع، وفيما يخص علاقات تركيا مع أرمينيا قام أردوغان بنفس الخيانة التي قام بها مع الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد؛ عندما عرض عليه المصالحة، بينما كان يخطط للإطاحة به بواسطة ميليشياته الإرهابية المسلحة.
ففي العقد الأول من الألفية الجديدة، عندما كان عبد الله جول رئيسًا للوزراء في تركيا، وكان هذا المنصب، هو المنصب التنفيذي الأول في تركيا قبل تحويلها إلى نظام رئاسي بموجب الاستفتاء الذي جرى في العام 2017م، طرحت تركيا أيضًا شعار “صفر أزمات” مع بلدان الجوار، وكان من بين خطواتها في هذا الاتجاه، تصفية الخلافات مع أرمينيا، ثم عندما سنحت الفرصة، كان الخيار العسكري هو أداة تركيا لتصفية ملف ناجورنو كاراباخ.
أيضًا تكلَّم أردوغان عن ضرورة إعادة النظر فيما يصفه بالغُبن الذي وقع على بلاده في موضوع مضائق الدردنيل والبوسفور؛ الَّلذين تم تدويلهما بموجب معاهدة “لوزان الثانية”، لكنه لم يجرؤ على اتخاذ أية خطوة في هذا الاتجاه، بعد تحذيرات أمريكية وأوروبية قاطعة.
أيضًا لا يجرؤ أردوغان على المطالبة بجزيرة رودس التي تخلت تركيا عنها لإيطاليا بموجب معاهدة “لوزان الثانية” .
ومن المهم هنا أيضًا أنْ نشير إلى أن معاهدة “لوزان الثانية” منعت تركيا من التنقيب عن النفط في بعض المناطق البحرية المجاورة مباشرة للجرف القاري لتركيا، ولم يستطع كسر الاعتراضات الغربية على ما أعلنه من إجراءات قبل عدة سنوات للتنقيب في تلك المناطق.
كذلك لا نسمع لأردوغان أي رِكْزٍ عن جزيرة “القلعة” أو “أضا قلعة” الواقعة على نهر الدانوب، والتي كرَّست معاهدة “لوزان الثانية” سيطرة رومانيا عليها بعد سيطرة الأخيرة عليها فعليًّا في العام 1919م، ثم بشكل قانوني بموجب معاهدة عُرِفَت بمعاهدة “تريانون” في العام 1920م، بالرغم من أن القلعة كانت في الأصل مُلكية خاصة للسلطان العثماني، وكان معظم سكانها من الاتراك، وفيها الكثير من المساجد.
أهداف أردوغان وأهداف الفوضى الهدامة
التقت أهداف أردوغان القومي بامتياز مع أهداف المشروع الغربي التفكيكي في العالم العربي والشرق الأوسط.
فمشروع الفوضى الهدامة الأنجلو أمريكي يقوم على أساس تفكيك الدول والمجتمعات، وبصفة خاصة المركزيات الكبرى التي تمثل عائقًا أمام النفوذ الغربي في المنطقة.
وبطبيعة الحال؛ فإن ذلك يخدم المخططات القومية التركية؛ من أجل استعادة مناطق النفوذ والسيطرة التي فقدتها تركيا في سياقات تصفية الإرث العثمانية وإعلان الجمهورية على حدودها الحالية؛ حيث إنه بغياب مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيوش الوطنية، يكن من السهل غزو تلك المناطق، أو السيطرة عليها بأية وسيلة كانت، بما في ذلك الميليشيات المسلحة.
وساهم في تعزيز السياسات التركية هذه، عدم توحيد الجهود العربية، وغياب الرؤية الموحدة لمظلة الأمن الإقليمي العربي، في ظل – أصلاً – استجابة بعض أطراف عربية لأردوغان، وتعاونها معه، مثل قطر، التي تجسد نموذجًا مهمًّا لمفهوم الدولة الوظيفية.
أيضًا هناك الجزائر التي تطرح مواقف متناقضة في سياسات الخارجية؛ حيث تقدم نفسها كرمز قومي عروبي، بينما ترعى أكبر مشروع تفكيكي في شمال أفريقيا والمغرب العربي؛ عندما تستضيف جبهة “البوليساريو” التي تسعى إلى الانفصال بإقليم الصحراء المغربية في دولة جديدة تفتقر لأبسط مقومات الدولة.
كما يرى النظام الجزائري الحالي أن تماهيه مع بعض المواقف التركية – بتأثير من حركة مجتمع السِّلْم (حمس)، إخوان الجزائر – عنصر قوة داعم لنفوذها في الإقليم ضد المغرب، وعلى مستوى العالم العربي بشكل عام، في تطبيق يعكس فهمًا خاطئًا لفكرة النفوذ الإقليمي؛ حيث إن المشروع التركي في النهاية، يتناقض تمامًا مع مصالح الأمن الإقليمي العربي، ودوله، ومنها الجزائر؛ التي هي مركزية كبرى يستهدفها الغرب بمشروعه التفكيكي.
وفي الأخير، فقد جسَّدت لحظات تاريخية مثل التدخل العسكري التركي في أذربيجان، ومن قبل إقدام أردوغان شخصيًّا على تحويل متحف “آيا صوفيا”، الذي بناه البيزنطيون ككاتدرائية في القرن السادس الميلادي، إلى مسجد، سائرًا في ذلك على خطى أجداده العثمانيين، علامات مهمة تؤكد أن أردوغان، تركي “قومجي” – أي شديد التطرف لهويته القومية – وإنما العباءة الإسلامية، هي مجرد رداء يخفي حقيقته، وحقيقة أهدافه.
أردوغان الذي في الثاني من يوليو 2020م، خرج على العالم في خطاب تليفزيوني لكي يقول إن “إعادة فتح” آيا صوفيا “يذكرنا بقوتنا، إنه رمز لقيامتنا وكسر الأغلال الموضوعة على أقدامنا. سنواصل المسيرة ولن نتوقف حتى نصل إلى وجهتنا”.
ولا يمكن الخطأ في تفسير الكلمات والعبارات التي استعملها، مثل “قيامتنا” و”كسر الأغلال” و”لن نتوقف حتى نصل إلى وجهتنا”؛ حيث هي بالضبط تعبر بدقة شديدة عن رسائل الدراما التركية، والتي من بينها “قيامة أرطغرل”، الذي يحكي قصة أرطغرل بِك التركماني، والد السلطان عثمان الأول مؤسس الإمبراطورية العثمانية قبل نحو ثمانية قرون!
إلا أنه من المهم هنا الإشارة إلى أن البلد الوحيد الذي استطاع أنْ يوقف أردوغان أمام خطوطه الحمراء، كان مصر، في ليبيا، وفي البحر المتوسط، برغم كل ما تحظى به خطط أردوغان ودولته من دعم وإسناد من القوى الكبرى في عالم اليوم.