مع اقتراب معرض الكتاب.. هموم النشر والناشرين في مصر والعالم العربي
إعداد: أحمد التلاوي
اقترب موعد الدورة الجديدة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، الدورة السادسة والخمسين، وفي كل مرَّة تحلُّ فيها هذه المناسبة الوطنية والعالمية المهمة، يتوسَّع الحديث حول عدد من القضايا الثقافية والاقتصادية أيضًا، المرتبطة بقطاع الطباعة والنشر والتوزيع.
وقبل مناقشة بعض هذه القضايا لنقل بعض جوانب الصورة التي يعيشها هذا القطاع في مصر، والذي يُعتَبَر طوال تاريخه أحد أهم مرتكزات القوة الناعمة المصرية في العالم العربي والشرق كله؛ فإنه من المهم أنْ نؤكد على حقيقة أن الاعتبارات الاقتصادية باتت هي أساس ومحرِّك أي شيء الآن، وعلى مستوى العالم كله.
كانت نقطة الأساس التي رسَّخت هذه الحالة، أزمة وباء “كوفيد – 19″، ثم الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث قاد هذان الحدثان العالميَّان المؤثِّران إلى طفرة كبيرة في أسعار كل شيء، المواد الخام وتكلفة النقل والطاقة، وبالتالي، تكاليف الإنتاج، في أي قطاع اقتصادي.
حتى بعد انتهاء أزمة “كوفيد – 19″، وفتح المجال مجددًا أمام حركة النقل والتجارة، وحركة الأموال والاستثمارات؛ لم تعد الأمور كما كانت أبدًا قبل 2020م.
وبالتالي؛ فإن هذا الوضع فرض الكثير من الأمور على مختلف القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الربحية، وبالتالي؛ كان قطاع خدمي في الأساس، حتى ولو كان فيه جانب ربحي مثل الطباعة والنشر والتوزيع، أكثر عُرضَة للتأثُّر بمثل هذه المتغيرات.
ارتفاع أسعار الخامات
ففي مطلع هذا العام، ارتفع سعر طن لُبِّ الخشب والورق عالميًّا، ليكون حوالي ألف دولار للطن، لكنه انخفض إلى مستوى 850 دولارًا في أغسطس الماضي، ولكن انخفاض قيمة الجنيه، جعل قيمة الطن في نفس المستوى تقريبًا، بينما وصل سعر طن الورق المُصَنَّع بحسب النوعية إلى ما بين 300 إلى 500 ألف جنيه.
وبطبيعة الحال، حاولت الحكومة المصرية، ودور النشر الخاصة على حدٍ سواء، التعامل وفق مقتضى الأمر الواقع، ولجأت إلى الكثير من الحِيَل من أجل الحفاظ على النشاط في هذا المجال الذي بات لا يدرُّ الكثير من الربح على العاملين فيه.
ومع ارتفاع تكلفة النقل، وبالتالي تكلفة المشاركة في المعارض الخارجية، اكتسب موسم معرض القاهرة الدولي للكتاب أهمية كبرى بالنسبة لدور النشر الحكومية قبل الخاصة حتى، مثلما بات شهر رمضان هو موسم الإنتاجات الدرامية والدينية الأكبر أو الوحيد تقريبًا لنفس الأسباب الاقتصادية.
ومن هنا لابد من الإشارة إلى بعض الأرقام الخاصة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الأكبر من نوعه في العالم بعد معرض فرانكفورت في ألمانيا. تبلغ مساحة “مركز مصر للمعارض الدولية” الواقع في القاهرة الجديدة، والذي تحتضن المعرض منذ دورته الحادية والخمسين في العام 2019م، 80 ألف متر مربع، ويزوره سنويًّا حوالي مليونَيْ زائر، وإن حققت دورة العام 2018م، الخمسين، معدل حضور قياسي، حوالي أربعة ونصف مليون زائر.
المؤسسات القومية وتحديات الواقع الراهن
على مستوى النشر الحكومي، تحركت الدولة في مصر في اتجاهَيْن، لمعالجة آثار الأزمات الاقتصادية العالمية المتوالية، وتنسيق أنشطة الطباعة والنشر المهمة بالنسبة لبلد بحجم مصر على مستوى الإقليم بالكامل.
الاتجاه الأول، هو الحفاظ على منصة النشر والتوزيع المُخَفَّضة والمدعومة، وبالأساس الهيئة المصرية العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة والأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية، باعتبارها أدوات لا غنى عنها للثقافة الجماهيرية، وللاستمرار في الحفاظ على قوة مصر الناعمة في العالم العربي، ولدى القارئين بالعربية في العالم الإسلامي والعالم الخارجي.
فاللغة العربية، هي لغة القرآن الكريم، كتاب المسلمين في العالم كله، وهي لغة صلاتهم، وبالتالي؛ فإنهم لابد ومتعلِّمين اللغة العربية، يُضاف إلى ذلك قراءة المتون وحفظها، مثل كتب الحديث النبوي والتفاسير والفقه؛ حيث غالبيتها العظمى باللغة العربية.
الاتجاه الثاني، إعادة هيكلة دور النشر الحكومية، وكانت البداية بـ”دار المعارف” و”المركز القومي للترجمة”، بناء على مبدأ التركيز على الكَيْف وليس الكَمِّ.
فشمِلَت إعادة الهيكلة إغلاق بعض المقار والمكتبات، نظير تطوير الباقي منها، بالإضافة إلى تحسين مستوى طباعة الكتب والإصدارات، مع التقليل منها لإفساح المجال أمام جودة الطباعة، مع رفع الأسعار بالصورة التي تجعل هناك عائد اقتصادي.
كذلك توسعت الدولة منذ عهد الوزيرة الأسبق الدكتورة إيناس عبد الدايم، في المعارض الإقليمية للكتاب، بحيث يكون في كل محافظة أو على الأقل في غالبية محافظات مصر، معرض موسمي للكتاب، مثل معرض بورسعيد ومطروح، وغيرها.
ولقد تم تطوير هذه السياسة في الوقت الراهن، بحيث تم التوسع في معارض الكتاب المُخَفَّضة في الشركات الكبرى والجامعات، مع تطوير شراكات مع جهات حكومية أخرى والقطاع الخاص من أجل التوسُّع في هذه النوعية من الأنشطة.
دور النشر الخاصة ومعركة البقاء!
بطبيعة الحال، استفادت دور النشر الخاصة من مثل هذه الأنشطة، لكنها على اختلاف طبيعتها عن دور النشر القومية، وضرورة الربح لأجل تحقيق الاستمرارية، كان لها أدواتها الخاصة.
ومن بين ذلك، اشتراك أكثر من دار نشر في جناح واحد في معارض الكتاب بشكل عام، ومعرض القاهرة بشكل خاص، أو توكيل دار نشر بعينها من أجل عرض كتبها، وهو مسموح به بمدىً معين؛ حيث من حق أي دار نشر وضع مطبوعات دارَيْن آخرَيْن على أقصى تقدير في أجنحتها.
كذلك لجأت دور النشر إلى نظام الوكيل؛ حيث يكون هناك وكيل لها في الخارج، يقوم هو بالاشتراك عنها في معارض الكتب التي تتم في بعض العواصم العربية، ومن أهمها معرض الرياض ومعرض تونس ومعرض الشارقة.
أيضًا توسَّعت دور النشر في البيع الإلكتروني، من خلال منصات تعمل داخل مصر وخارجها، مثل “نيل وفرات” و”جرير”، من أجل تفادي مشكلات الشحن عند البيع التقليدي من خلال المكتبات الكبرى المختلفة في القاهرة والمحافظات، أو من نظيرتها خارج مصر.
كما لجأت دور نشر أخرى إلى قصر إصداراتها على النسخ الإلكترونية فحسب، والتسويق لها من خلال منصات مثل “أبجد”.
أما على مستوى تقنيات الطباعة، فقد لجأت دور النشر الخاصة إلى آليات جديدة، مثل الطباعة بالنسخة، من خلال ماكينات التصوير الضوئي، وليس المطابع، التي تستهلك في الغالب كميات أكبر بكثير من الورق والأحبار، مع قدرة أكبر في حالة التصوير، على طباعة أي عدد مهما قَلَّ من النُّسَخ من الكتاب الواحد، ولو نسخة واحدة، بينما ماكينات الطباعة العادية لا تعمل إلا مع حَدٍّ أدنى من النُّسَخ، قد لا يكون مطلوبًا، وقد لا تكون تكلفته اقتصادية.
وتشمل هذه الآليات، تقنيات طباعية تقلل قدر الإمكان من تكلفة الطباعة، مثل طباعة “الماستر”، أو استعمال نوعيات أقل جودة من الورق، بدلاً من “الشمواه” و”الورق الكريمي”، وهما أفضل أنواع ورق الطباعة، وكذلك التقليل من الطباعة بأربعة ألوان، لصالح الأبيض والأسود فقط، وهي أيضًا خيارات لجأت إليها دور النشر القومية في بعض إصداراتها.
إلا أن الاعتبارات الاقتصادية المباشرة هذه ليست التحدي الوحيد الذي تواجهه هذه الدور، فهناك مشكلة الطبعات المزورة، والتي يُعتَبَر المؤلف هو المتضرر الأكبر منها، وليست دار النشر.
فقد يتم تعويض انخفاض المبيعات من النُّسَخ الشرعية من مطبوعات وأنشطة أخرى، بينما المؤلف هو الحلقة الأضعف في هذا الموقف؛ لأن دار النشر تدفع له نسبة من التوزيع، بينما الطَّرَف الذي يقوم بالتزوير لا يدفع بطبيعة الحال للمؤلف أي شيء.
وهنا لجأت بعض دور النشر إلى تقنية ذكية، وهي أنْ تكون هي بنفسها “المُزَوِّر”؛ حيث تطرح نسخًا أقل سعرًا من النُّسَخ القانونية أو الشرعية، بجودة أقل، بحيث تخاطب شريحة القُرَّاء الذين يخاطبهم المُزَوِّر الأصلي بأسعاره التنافسية، ولكن دور النشر التي تقوم بذلك، تقدم جودة معقولة للطباعة، بخلاف بعض الطبعات المُزَوَّرة، والتي قد لا تكون قابلة للقراءة في بعض الاحوال.
على هذا النحو، تجاهد دور النشر القومية والخاصة من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من التواجد، وأنْ تبقى على قيد الحياة.
وهو وضع لا تنفرد به مصر؛ حيث إن أكثر البلدان العربية ثراءً، توقفت بالفعل عن الكثير من مطبوعاتها الحكومية، مثل مجلة “الدوحة” التي تقلَّصت أولاً لكي تكون المجلة من دون ملحقها، ثم من دون كتابها الشهير، حتى توقفت تمامًا.
كما رفعت بعض الحكومات الخليجية الدعم عن بعض المجلات التي كانت تحظى بدعمها، مثل النسخة العربية من مجلة ناشيونال جيوجرافيك” التي كانت حكومة أبوظبي تدعمها، بحيث تحدد سعرها بسبعة دولارات في كل بلد عربي، بما يوازيها بالعملة المحلية، مما أدى لارتفاع سعرها إلى 350 جنيهًا من 20 جنيهًا في مصر، وبالتالي، توقفت مؤسسة “الأهرام” عن توزيعها، وبالمثل الكثير من وكلائها في الدول العربية الأخرى.
كما توقف “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” الكويتي عن إصدار مطبوعاته الأهم، مثل مجلات “العربي” و”العربي الصغير” و”عالم الفكر”، وسلاسل الكتب المترجَمَة مثل “عالم المعرفة” و”المسرح العالمي” و”إبداعات عالمية”، لبضعة أشهر، من أجل بحث التكلفة المالية لها، قبل أن يعاوِد إصدارها محافظًا على أسعارها التفضيلية، والتي في الأصل ارتفعت قبل نحو عامَيْن إلى الضعف.
وتبقى حقيقة أن معرض القاهرة الدولي للكتاب، هو المنصة العربية والإقليمية الأهم بالنسبة لكل دور النشر الحكومية والخاصة في مصر والعالم العربي، وبالتالي؛ فإن الإقبال عليه، وحجم المبيعات، مؤشر شديد الأهمية على واقع هذا القطاع.