هشام النجار يكتب: الدليل والبرهان على جهل هبة الله أخوندزادة زعيم طالبان
ذكرني أحدث قرارات زعيم حركة طالبان الغامض هبة الله أخوندزاده بشأن تحويل بث القنوات التلفزيونية إلى صوتي فقط ما يعني حرمان الأفغان نهائيًا من مشاهدة التلفزيون بحجة تصويره الكائنات الحية بالرد الساخر للمفكر والمجدد الإسلامي الشيخ محمد عبده رحمه الله على شيخ متنطع شرع في سد الطريق أمام استخدام فنون الصورة والرسم عندما تخوف أمامه من استخدام الرسم والصورة في أمر من أمور الدعوة، فقال الإمام محمد عبده (فإن لسانك مظنة الكذب، فهل نربطه حتى لا يكذب؟).
إذن تأكد القرار الذي من المؤكد أن يثير اندهاش العالم كله في القرن الحادي والعشرين، لا بتوصل أحد قادة وعلماء المسلمين لمنجز عصري مذهل في أي مجال من المجالات إنما بإغلاق التلفزيون وإنهاء عصر الصورة والعودة إلى عصر الصوت، حيث قال مدير عام الإذاعة والتلفزيون الوطني في أفغانستان قاري يوسف أحمدي أنه إجتمع برؤساء فروع التلفزيون والإذاعة الأسبوع الماضي وأخبرهم بأن زعيم طالبان هبة الله أخوندزاده ضغط عليهم من أجل وقف بث القنوات التلفزيونية لتصويرها الكائنات الحية، وأشار إلى أنه سيتم وقف بث القنوات التلفزيونية وتحويلها إلى إذاعات، وكشفت أيضًا أنه تم تحويل التلفزيون الوطني في قندهار (جنوب البلاد) إلى راديو!
كان هذا بالضبط هو برنامج حكم الإسلاميين والسلفيين في مصر حيث خرج أحد السلفيين في برنامج تلفزيوني يقول بأن التماثيل حرام وأن برنامج الإسلاميين في الحكم لابد أن يتضمن هدم الأهرامات وأبو الهول.
وغطى إسلاميون وجوه تماثيل بالإسكندرية، وطالب آخرون بتغطية التماثيل الفرعونية بالشمع، وهدم إسلاميون آخرون تمثالًا للزعيم الراحل جمال عبد الناصر بسوهاج، وأحرق آخرون تمثالًا للمخرج السينمائي محمد كريم بمدينة السينما، وهدم آخرون تمثالًا نصفيًا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
هذا غير ما ارتكبه تنظيم داعش ومن على شاكلته ضد متاحف وآثار العراق وسوريا واليمن وليبيا، زاعمين بأنها أصنام محرمة يجب هدمها وإزالتها، وقبل ذلك بسنوات رأينا كيف هدمت القاعدة وطالبان آثار أفغانستان وتراثها الثقافي والحضاري.
لنناقش معًا المسألة بهدوء وبعمق لنثبت كيف أن أخوندزاده ومن على شاكلته من إسلاميين عرب وعجم جاهلون بجوهر وروح ومقاصد الإسلام العظيم وغاية جهدهم هو التعلل بظاهر نصوص دون التعمق في فهمها.
حرم الإسلام التمثال الذي يعبد من دون الله، وهدم الرسول صلى الله عليه وسلم تلك التي كانت في المسجد بغرض العبادة لخصوصية المسجد، لكن لم يتعد الأمر للذهاب إلى بيوت المشركين لتحطيم ما بحوزتهم وإن امتلكوها بغرض العبادة فلهم دينهم وللمسلمين دينهم.
انشغل الإسلاميون المعاصرون بتحطيم تمثال لهذا الزعيم وذاك القائد وهذا الكاتب والمفكر، وكأن النهضة والتنمية والرفاهية لا تقوم إلا على أنقاض تماثيل هؤلاء الرموز المحطمة في الشوارع والميادين، وكأن المشروع الإسلامي –في تصور هؤلاء– هو تحطيم التماثيل في مختلف البلدان في العراق ومصر وأفغانستان، في تصرف غريب يُتخيل معه أن المصريين والعراقيين والأفغان عاكفون على عبادتها كما كان كفار قريش عاكفين على عبادة أصنامهم!
لم يفرق أخوندزاده وقبله السلفيون في مصر وغيرهم في المقاصد بين ما هو فني ومصدر نعمة وخير وبهجة وسعادة وجمال للخلق، وبين ما هو تعبدي يقصد به الوثنية والإشراك بالله في العبادة، والفارق كبير بلا شك.
في الإسلام تمثالان؛ أحدهما صنم محرم لأنه يعبد من دون الله، والآخر مباح دال على وحدانية الله، قد يصنعه أحدهم ليدل به المتلقي والجمهور على طريق الله، وقد حدث القرآن عن تمثال معجزة دل القوم على وحدانية الله عز وجل: “ورسولًا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله”.
والإبداع معجزة؛ فإذا كان مقصده هداية الخلق إلى الله وجذبهم من خلال جماله وسحر معانيه ومضامينه وإيحاءاته إلى طريق الحق وهداياته فهو الإبداع المنسجم والفن المتسق مع رسالة الإسلام التوحيدية الجمالية، والذي يناقض تمامًا توظيف الفن التشكيلي والنحت في الدعوة للوثنية أو الإباحية، فهذا طريق آخر له مقصد آخر تمامًا غير مقصد الفن الراقي وغاياته.
ويعدد القرآن الكريم أشكال وصنوف عن هذه النعم والإبداعات والمعجزات الموظفة للخير والهداية والتوحيد ويدعو من أنعم الله عليه بها ليشكر هذه الأنعام وتلك الأفضال الجليلة “يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل دواد شكراً وقليل من عبادي الشكور”.
التماثيل والصور هنا ليست موظفة ومصنوعة للشرور ولم يتفنن في إبداعها من تفنن لتكون صدًا عن سبيل الله والإشراك بالله، فمن يقوم على أمرها وينتفع بها ملك ونبي من أنبياء الله يدعو إلى الوحدانية وإلى الخير والهداية والخضوع لله وحده، ويذكر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن “المحاريب هي المساجد والتماثيل صور الملائكة والنبيين والعباد لكي ينظر إليهم الناس فيعبدوا ربهم على مثالهم”، فالمقصد الهداية إلى عبادة الله وتوحيده وليس الإشراك به، وعلى محور الغايات والمقاصد تدور الإشكالية وصولًا لتوظيف راق للفنون التشكيلية الحديثة ينسجم مع غايات الإسلام ومقاصده ورسالته ومفاهيمه.
هذا نهج آمن وضامن لسلامة المعتقد والفن معًا؛ فلا يسمح بتسخير الفن والمبدعين والموهوبين لخدمة ومصالح دين بعينه، فتبقى الفنون أسيرة دور العبادة ورهينة إرادات رجال الدين، ولا يقف الفن عند حدود التوظيف الديني والعقائدي، بل ينطلق محررًا إلى آفاق التوظيف الإنساني والكوني الرحب بدون صراع ولا تصادم، بتكاملية مثمرة ومنتجة تصب في مصلحة نفع الإنسان، سواء من الناحية الروحية والإيمانية، أو من ناحية إشباع التذوق بالجمال والإبداع وتغذية العقول بالمعرفة والفكر.
عند تحطيم الرسول صلى الله عليه وسلم للتمثال الوثن المعبود من دون الله، لم يكن هذا فعلًا موجهًا ضد الفن، إنما ضمانة أبدية ومنعًا للفن أن يوظف في الوثنية؛ أي في غير غاياته وأهدافه ومقاصده العليا اللائقة به، فالرسول بتحطيمه الوثن المعبود حرر الفنون من هذا التوظيف الذي يأسرها ويكبلها مدى الدهر، ولولا هذا التحطيم الجزئي لبضعة تماثيل عبدت من دون الله لما خرجت الفنون من بين جدران المعابد إلى آفاق الحرية الرحبة.
ولأن المقصد هو الأساس في الانطلاق فقد كان هناك فارقًا دقيقًا بين تعامل الرسول مع التمثال الوثن المعبود وتعامله مع الدمى المنحوتة التي كانت تلعب بها السيدة عائشة رضى الله عنها، فالغايات والمقاصد هنا إبداعية جمالية ذوقية، والغايات والمقاصد هناك وثنية إشراكية تعبدية، والفارق كبير بين الغايتين.
كل إبداع وفن لا يدعو لوثنية ولا لإباحية فهو مباح ومطلوب ضروري لنفع الإنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر اقتناء لعب البنات وهي تماثيل منحوتة صغيرة لأن الغاية منها اللعب والتربية والتثقيف، والنبي صلى الله عليه وسلم (خط خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا).
هذه الرسوم التوضيحية إيذان مبكر بانفتاح الإسلام على وسائل الفنون والإبداع المختلفة لتوظيفها في عرض الأفكار وشرح المعاني القيمية العميقة المطلقة من خلال تجسيدها وتمثيلها فنيًا، وتلك الخطوط مع ما صنعه الرسول مع رأس التمثال بالمنزل حيث أبقى على الجسد المنحوت شواهد محددة لضوابط منهجية في إستخدام الفنون في التعبير بأسلوب جانح للتجريد والترميز المبدع الشاغل للخيال المحفز للعصف الذهني، لا للتجسيد والطرح المباشر التقليدي.
يحفل القرآن الكريم بالتصوير الفني المعجز الذي يحول القيم والمعاني والأخلاقيات المطلقة إلى صور محسوسة وكيانات متحركة في حيوية وجمال مبدع لا حدود له، ومن يتذوق القرآن يشاهد آيات ولوحات الجمال المزدهرة والمزدانة بالألوان والصور الفنية التي تحفز أصحاب الفكر والإبداع وعشاق الفن على اعتماد الفن والتصوير الفني كنموذج ووسيلة مثالية عن التعبير عن القيم والمبادئ العليا.
روى أبو داود في سننه حوارًا مهمًا ولافتًا بين الرسول والسيدة عائشة رضي الله عنها؛ فقد قال لها يومًا بشأن ألعابها: وما هذا الذي في وسطهن؟ قالت: فرس! قال: ما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان! قال: فرس له جناحان؟! قالت: أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داوود خيل لها أجنحة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
يأتي ذلك الإبداع الذي أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم لدرجة الضحك في سياق التأكيد على إقرار الإسلام الإمعان في توظيف الخيال والجنوح إلى عجائب الفن وغرائبه ومدهشاته التي تحلق بالعقول في عالم الخيال وتصنع البهجة بدهشة الصورة وغرابة إبداعها غير النمطي وغير التقليدي.
ولإثبات جهل أخونزاده المركب بجوهر ومقاصد وروح الإسلام، هناك حديث عن ابن عباس رضى الله عنهما يرخص ويسمح برسم الشجر وما لا نفس فيه ؛- كما في البخاري ومسلم – بمعنى الاتجاه إلى معاني وصور الجمال في الطبيعة وتفضيل هذا اللون من الرسم على ألوان التجسيد والشغف بالجسد، وهنا اتجاه مبكر للفن التشكيلي الذي يجنح ابتداءً لتصوير الطبيعة، لكننا نفهم أنه توجه مبدئي مرحلي لحين زوال تأثير توظيف الفن التجسيدي للإنسان والحيوان في عبادة الوثن، فحتى الشجر له روح، وهو من الأحياء التي تتنفس وتتغذى وتنمو وتحيا وتموت، لكن السماح بمظاهر الطبيعة ورسم الأشجار في تلك المرحلة المبكرة من انطلاق الإسلام كان لأنها لم توظف أصلًا في الوثنية حيث لم تُعبد صور الأشجار والنباتات.
إذا وصلنا لمرحلة عصرية آنية لا توظف فيها صور الحيوان والإنسان في عبادتها أو اتخاذها وثنًا للتبرك والتشفع والإشراك، واقتصار استخدامها في التذوق الفني الإبداعي وتوظيفها في رسالة الفن الراقية التي تنسجم وتتسق مع مبادئ وقيم وغايات الإسلام دون ابتذال، فهذا لا يختلف كثيرًا عن التصور المرحلي لإباحة رسم الطبيعة – كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما – واعتبارها كميدان ومادة مرحلية للفنون التشكيلية، لأن المقصد واحد والمحاذير في الحالتين صارت منتفية.
كما أن المصلحة العامة تقتضي الانفتاح على الصور والرؤية التي يقيم عليها العالم الآن مواقفهم وقراراتهم واتجاهاتهم عبر الإطلاع على الأحداث وما يجري حول العالم بشكل دقيق.
بالعودة لحديث البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما تتضح لنا القضية بجلاء، فابن عباس تصرف مع الرجل السائل – الذي كان يعمل رسامًا – مستندًا إلى المرحلية القائمة على الغايات والمقاصد بحسب ظروف وملابسات كل مرحلة؛ فقد أتى ابن عباس رجل فقال: يا ابن عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، سمعته يقول (من صور صورة فان الله معذبه حتى ينفخ فيه الروح وليس بنافخ فيها أبدًا “، (ولعل أخوندزاده يتحجج بهذا الحديث متخذًا قرار غلق التلفزيون) فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه، فقال ابن عباس: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شيئ ليس فيه روح).
هنا تفضيل مرحلي مخصوص بتلك الفترة المبكرة لصنف دون الآخر من الفنون التشكيلية والصور استنادًا لمدى قابلية هذا الصنف أو ذاك لتوظيفه في غايات الإشراك والعبادة من دون الله بحسب الواقع والظروف والملابسات، وتم الترخيص برسم الطبيعة لأنها كانت وقتها أبعد عن هذا التوظيف وهذا الاستغلال، فإذا صارت صورة الإنسان والحيوان اليوم بعيدة عن توظيفها كوثن يعبد أو يشرك به من دون الله سقط عليها نفس الحكم الذي اجتهد في استخلاصه مرحليًا ابن عباس.
وحديث (إلا رقمًا في ثوب) فيه إشارة واضحة لتشجيع فنون الزخرفة على القماش بأنواعه، وإذا جازت فنون الزخرفة على القماش جازت على غيره.
الأولى هنا إذن القول أن الإسلام جاء بمدرسة فنية وبمنهج فني، لا القول بأن الإسلام يحرم الفن والصور أو يضع العقبات والممنوعات في طريقه، أما الشواهد التي يستدعيها أخوندزاده للتحريم، فالتحريم حتمًا لا يقع فيها إلا على المساحة الخارجة عن النهج وهى مساحة الدعوة والتوظيف في الدعوة للوثنية أو الإباحية أو كليهما معًا.
وإذا كان قد منع الصورة المتحركة عبر التلفزيون فهل سيمنع الصور الفوتوغرافية وصور بطاقات الهوية التي تساعد في تحديد الهويات والتعرف عليها وتسهل على الأجهزة الأمنية عملها؟
لا يصح أن يتدخل هبة الله أخونزداه أو غيره بحملات المنع والحظر والتضييق وسد أبواب الإبداع والفنون التي أطلقها الإسلام لتمضى في طريق مواز مع أهدافه وغاياته وتدعم جهوده في الارتقاء بالإنسان فكرًا وسلوكًا وخلقًا وتحقق مصالحه وتجعله مسايرًا ومواكب لتطورات عصره ومستجداته (بزعم سد الذرائع وحتى لا يقع المحظور والأخذ بالأحوط)، فهذا السلوك من البعض إنما سد الطريق أمام فتوحات عظيمة للإسلام من خلال الانفتاح بتلك الوسائل السحرية الجذابة على جماهير لا حصر لها ولا عد، فضلًا عن أنه يضع الإسلام موضع السخرية بسبب انغلاق وتنطع أحد ممن يدعون العلم بشريعته، في حين أنه حضاريًا ومقاصديًا أرقى وأعلى من أن تناله سهام التشويه والطعن والسخرية.