fbpx
تقارير

التلاعُب بالعقول.. الرقابة العسكرية الإسرائيلية وكيف تدير الحرب الحالية

إعداد: أحمد التلاوي

تُعتَبر “هيئة الرقابة العسكرية الإسرائيلية”، واحدة من أهم الهيئات العاملة في إسرائيل، وأكثرها تأثيرًا، على الرغم من أنه غير معروف على نطاق واسع بالنسبة للعوام وجمهور الإعلام في العالم العربي، بالرغم من أنه الجمهور المُستهدَف بنشاط هذه الهيئة، ودورها.

هذه الهيئة، ذات مهام أمنية مباشرة، وأوسع بكثير من الفكرة المأخوذة عنها حتى لدى المتخصصين بالشؤون الإسرائيلية، والمتعلقة بالرقابة على الصحف ووسائل الإعلام.

هي وحدة حكومية تتبع شعبة الاستخبارات العسكرية في هيئة الأركان العامة الإسرائيلية والمعروفة بالعبرية باسم “أجاف مودعين” واختصارًا باسم “أمان”.

ومُكَلَّفة رسميًّا بمهمة تنفيذ الرقابة الوقائية فيما يتعلق بنشر المعلومات التي قد تؤثر على أمن إسرائيل، هذا بشكل عام، ولكنها تأخذ حَيِّزًا أكبر في عملها، في السيطرة على ما يتم نشره وبثُّه في الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، وكذلك الأجنبية التي تعمل من داخل إسرائيل.

يرأس الهيئة مسؤول عسكري، يُعَيِّنه وزير الدفاع الإسرائيلي، وليس مدير شعبة الاستخبارات العسكرية، ويُعرَف باسم “الرقيب العسكري”، وله سلطة منع نشر المعلومات في وسائل الإعلام، ولاسيما عن بعض الأمور ذات الأهمية الخاصة، في الأمور العسكرية، مثل برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي والعمليات العسكرية الإسرائيلية خارج الحدود، والمدنية، مثل قطاعَيْ الطاقة والمياه.

ووفق القانون الذي ينظم عمل الرقابة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإنه يجب تقديم المواد الإعلامية المتعلقة بموضوعات قد تكون مثيرة للجدل إلى الرقيب العسكري الإسرائيلي مسبقًا؛ وعدم القيام بذلك، يعني عقوبات متدرجة على المصدر الصحفي، ومنها سحب الترخيص الممنوح للمراسل الصحفي أو الإعلامي، ومنع الأجانب منهم من دخول البلاد.

وعلى ذلك، وعلى عمق التأثير الذي تلعبه هذه الهيئة؛ فإنه لا يمكننا أن نأخذ على محمل الجد، ما تقوله أبواق الدعاية الإسرائيلية من أن الدولة العبرية هي “واحة للديمقراطية” وسط بحر من الاستبداد والتوحُّش في العالم العربي والشرق الأوسط.

التلاعُب بالعقول

عندما وضع الأكاديمي والمفكر الأمريكي المعروف هيربرت شيللر كتابه المعروف “المُتلاعبون بالعقول”، في العام 1973م، فإنه أسس لحقل معرفي جديد في علم الاجتماع، يتعلق بدور الإعلام – بمعناه الواسع – في توجيه المجتمعات، يعتمد على توظيف علم النفس في تشكيل السلوك والوعي الإنسانيَّيْن.

صاغ شيللر مصطلحًا مهمًّا في هذا الصدد، وهو “الوعي المُعَبَّأ”؛ عندما تحتكر جهة واحدة أو جهات معينة، عملية الضخ في وسائل الإعلام المختلفة، بما في ذلك الصور والمعلومات والأخبار، بصورة تحدد معتقدات وأفكار ومواقف الجمهور المستهدَف، وهو في هذه الحالة، الجمهور العربي

وهذا بالضبط ما تقوم به الرقابة العسكرية الإسرائيلية؛ حيث في الحقيقة أنها لا تقوم فقد بدورها الرسمي المنصوص عليه في القانون الخاص بها، بالصورة السابق شرحها، وإنما هي تعمل على استخدام السلطات الممنوحة لها في عملية الخداع الإستراتيجي الموجهة لخصوم إسرائيل، من خلال رسم صورة مجتزأة أو غير حقيقية في بعض المواقف، من أجل التضليل.
والخداع الإستراتيجي، هو أحد المهام الأساسية التقليدية التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات المدنية والعسكرية في كثير من الأحيان لتحقيق بعض الأهداف المتعلقة بمصالح الأمن القومي للدولة، أية دولة.

ولذلك؛ فإن أجهزة التقييم والمعلومات الإستراتيجية، تكون على قدر كبير من الوعي بما تقوم به الأجهزة الخَصِمَة في الدول الأخرى، وتتحسَّب لها بوسائل شتى، ولهذا، فإن الأثر الخطر لمثل هذه النوعية من الأنشطة، يكون على الجمهور العام غير المتخصص، والعوام.

وفي الماضي؛ لم يكن هذا الأثر في البلاد العربية، ومنها مصر، الجبهة الأساسية في مواجهة إسرائيل، بالعمق الكافي، في ظل عوامل عدة، منها وعي الجمهور العام، ووجود الدولة الحارسة، ونوعية وسائل الإعلام القابلة للضبط في الماضي.

أمَّا في وقتنا الحالي؛ مع انتشار الجهل بمعناه الواسع حتى في أوساط المتعلِّمين، بما يسهل معه توجيه العوام، وتراجع دور الدول والحكومات، في مقابل انفلات غير مسبوق وغير محسوب في وسائل الإعلام بعد الثورة الرَّقْمية، وظهور وسائل الإعلام الجديد، أو الـ”New Media”، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، مثل “فيسبوك” و”X”، وتطبيقات التراسل الفوري مثل “واتساب” و”تليجرام”، وغير ذلك؛ فإن دور جهاز مثل الرقابة العسكرية الإسرائيلية، بات شديد التأثير والخطر.
ورأينا ذلك في الحرب الحالية على غزة، ثم لبنان؛ حيث أغرقت الرقابة العسكرية الإسرائيلية الجمهور العربي في مجموعة من الخرافات الحقيقية، مثل الحديث عن “أزمات داخلية تضرب الحكومة الإسرائيلية”، و”تباينات وخلافات بين المستويَيْن السياسي والعسكري في إسرائيل”، مما سمح لإسرائيل بشراء الوقت، حتى حققت أهدافها، أو فلنقُل معظمها في الحرب على غزة، والآن على لبنان.

والمؤسف أن بعض هذه الأمور على سذاجته، وعدم قبوله عقلاً قد جاز على شرائح واسعة من المتعلمين، وحتى من الإعلاميين والمثقفين وصُنَّاع الرأي، والذين هم من المفترض أنهم حائط الصد والحماية الرئيسي للمجتمعات في مثل هذه الظروف.

فأبسط المعارف العسكرية والأمنية والسياسية، المتوافرة حتى لغير المتخصصين، تنفي تمامًا هذه الخرافات، عندما ترى عمليات اغتيال نوعية مثل اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، في إيران، أو تنفيذ ما يُعرَف بـ”خطة الجنرالات” في شمال قطاع غزة، أو تنسيق العمليات في محور “صلاح الدين” / فيلادلفيا ومنطقة معبر رفح مع الحدود المصرية، في ظل التعقيدات الكبيرة لمثل هذه الأمور، وأثرها العميق على الجبهة الداخلية في إسرائيل، وعلى مصالحها الخارجية الحيوية، أنْ يكون تنفيذها – هذه العمليات والخطط – في ظل هكذا ظروف “أزمات” و”خلافات” و”عدم تنسيق” كما أشاعت إسرائيل عن نفسها.

وأبسط ما يمكن قوله في ذلك، أين التقارير التي سربتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة، ونسَّقتها إعلاميًّا الرقابة العسكرية هناك، عن إقالة وزير الدفاع، يوآف جالانت، أو استقالة رئيس الأركان هرتسي هاليفي، وكل ما تردد من تقارير وأخبار في الأشهر السابقة في المصادر الإعلامية الإسرائيلية؟!

بطبيعة الحال، لم يحدث من ذلك أي شيء، وكل ما كان يجري، هو ما يُطلَق عليه في العلوم الأمنية، سياسة تعمية واسعة النطاق، قامت بها إسرائيل، من أجل التشويش على الصورة الداخلية الحقيقية هناك، وبالتالي، نفي فكرة وجود خطط كبيرة ونوعية من المستحيل على أي معيار عسكري أو أمني، تنفيذها طالما أن هناك خلافات وأزمات ومعارك داخلية في الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها العسكرية والأمنية.

سمح ذلك – كما تقدَّم – لإسرائيل تنفيذ خطط ضخمة، في غزة، مثل عمليات محور “صلاح الدين” / فيلادلفيا، أو السيطرة على محور “نيتساريم” الذي يشطر قطاع غزة شطرَيْن، ومسحه بالكامل كما كشفت صور الأقمار الصناعية، وفي لبنان، كما رأينا، تصفية كامل الأركان العسكرية والسياسية تقريبًا لـ”حزب الله”، وتخريب شبكة الاتصالات، التي هي عَصَب الحزب، وعَصَب أي جهاز عسكري مُنَظَّم، لأجل عملية القيادة والسيطرة.

تمرير وتنفيذ هذه الخطط الإسرائيلية، لم يكن لينجح، لو كانت الصورة الحقيقية للمطبخ الأمني والعسكري والسياسي في إسرائيل واضحة، ولكن نقل صورة “الانقسامات” و”الخلافات” هذه، أبعَد تمامًا عن الأذهان، حتى لدى كبار مسؤولي الدول والجماعات التي تعمل ضد إسرائيل، فكرة أن الدولة العبرية تخطط وتنوي تنفيذ عمليات بمثل هذا المستوى والحجم.
…..
…..
والحقيقة، أن التضليل وعمليات التشويش على الرأي العام العربي قليل الخبرة، ضعيف الفهم، والتي تتم من خلال الإعلام في إسرائيل، كبيرة، وعميقة الأثر، مما لا يمكننا معه مناقشته في مقال أو تقرير واحد، ولذلك نفرِد لها مقالات وتقارير أخرى في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى