وفق الوثائق البريطانية التي رفع عنها الطابع السري في 26 مارس الماضي، طهران دعمت الفصيل الشقاقي التابع لحركة “الجهاد” الذي عرف لاحقاً بـ”سرايا القدس” ورأت في “حزب الله” وسيلة ملائمة لشن عمليات إرهابية يمكن إنكارها ولا تعرضها لخطر التورط العلني.
تأسست حركة “حماس” عام 1987 وسطع نجمها لتكون حليفا مهما لإيران في تسعينيات القرن الماضي.
في الرابع من مايو 1994، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاقاً بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من إعلان المبادئ في القاهرة، لكن جماعات فلسطينية عارضته، فكيف استثمرت إيران في تلك الجماعات ودعمتها من أجل هدم عملية السلام؟
منذ سقوط الشاه وقيام نظام “ولاية الفقيه” في إيران عام 1979 لم تغب فلسطين عن فكر قادة الثورة الإسلامية كأحد الأبواب الرئيسة نحو “تصدير ثورتها” إلى دول الجوار، معتبرين أن “احتضان” القضية من شأنه إكسابهم شعبية في العالم العربي والإسلامي الذي يعد فلسطين قضيته الأولى.
وأمام أهمية “العامل الأيديولوجي” في رسم سياسات “الثورة الإيرانية” في سنواتها الأولى، لا سيما ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تقلبت المواقف الإيرانية تجاه الأطراف الفلسطينية الفاعلة التي بدأت بدعم منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” قبل أن تتغير المعادلة على وقع الخلاف الأيديولوجي بينهما، لتتجه بعدها طهران إلى الحليف الأقرب لها أيديولوجياً على الساحة الفلسطينية، وهو حركة “الجهاد الإسلامي” التي انشقت عن جماعة “الإخوان المسلمين” عام 1980، وكذلك حركة “حماس” التي ظهرت على السطح عام 1987، وسرعان ما سطع نجمها بفعل دورها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
وتجلى ذلك التقلب الإيراني سريعاً مع مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية في بداية عقد التسعينيات وصولاً إلى التوقيع على اتفاق “أوسلو” عام 1993، إذ تكشف وثائق بريطانية أفرج عنها حديثاً عن دور إيراني واسع في الاستثمار في جماعات فلسطينية عارضت الاتفاق، وكذلك “حزب الله” اللبناني إحدى أبرز الأذرع الإيرانية في المنطقة، ودعمهم من أجل هدم عملية السلام.
موقف الجماعات الفلسطينية من عملية السلام
ترصد الوثيقة التي تعود إلى قسم البحث والتحليل في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية والصادرة في الـ11 من مايو عام 1994 أبرز مواقف التيارات والأطراف الفلسطينية، لا سيما “المتطرفة منها” من عملية السلام مع الإسرائيليين، وتوقع مواقفها المستقبلية منها.
رد الفعل السري
تقول تلك الوثيقة التي رفع الطابع السري عنها في الـ26 من مارس الماضي إن “رد الفعل السريّ للجماعات الفلسطينية أو المتطرفة على الاتفاق بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية نقاط يجب توضيحها، نددت الجماعات الفلسطينية والمتطرفة التي عارضت عملية السلام في الشرق الأوسط بشكل متوقع بالاتفاقات الأخيرة.
وتعهدت الجماعات الرافضة مواصلة الكفاح المسلّح في الأراضي المحتلة (بما في ذلك لبنان)، لكنها لم تهدد باتخاذ إجراء دُولي، ولا نعتقد أن مقتل دبلوماسي أردني في بيروت على يد منظمة الاستخبارات الوطنية كان مرتبطاً بعملية السلام.
رد فعل الجماعات الفلسطينية على الاتفاق بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية
وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاقاً بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من إعلان المبادئ في القاهرة في الرابع من مايو 1994. وقد واجه الاتفاق كما كان متوقعاً معارضة حادة بين تلك الجماعات الفلسطينية والإسلامية التي عارضت باستمرار عملية السلام منذ مدريد، إما لأنها تعارض بشكل قاطع أي شكل من أشكال التسوية مع إسرائيل، أو مقتنعة بأن مصالح جميع الفلسطينيين لن تتم تلبيتها في أي تسوية نهائية”.
وأوضحت الوثيقة أن الجماعات الفلسطينية، التي تشكّل تحالف القوى الفلسطينية (دمشق 10) أعلنت “أنها ستواصل أعمال العنف في الأراضي المحتلة ضد إسرائيل. وعلى رغم عدد من المنشورات التي يزعم أن “حماس” وزعتها بزعم أنها تهدد أهدافاً غربية في الأراضي المحتلة، لا يوجد دليل موثوق على أن أياً من الجماعات تنوي شن هجمات أخرى غير الأهداف الإسرائيلية. وأصدرت “حماس” و”الجهاد” الإسلامي في فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بياناً مشتركاً بعد اجتماع عُقد أخيراً في غزة أكدوا فيه أنهم لن يواجهوا قوة الشرطة الفلسطينية عند انتشارها”.
إيران تعارض السلام وتدعم الجماعات الفلسطينية
وتسرد الوثيقة أن “المنظمات التي تعارض عملية السلام، التي تمتلك قدرة إرهابية دولية، مقيدة حالياً من قِبل الدول الراعية الفعلية أو المحتملة. يقع مقر القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سوريا، التي تشارك هي نفسها في عملية السلام، وستتخذ خطوات لمنع أي أعمال من قِبل الجماعات القائمة على أراضيها، التي من شأنها أن تعرّض مصالحها على المدى الطويل للخطر.
منظمة أبو نضال، التي كانت المنظمة المتطرفة الأكثر نشاطاً، مقيدة من قبل الدولة الراعية لها”.
أما إيران فأوردت الوثيقة أنها “عارضت العملية وعرضت الدعم للجماعات الفلسطينية المنشقة. وتتسم معظم الجماعات بطابع علماني، وقد تركز الاهتمام الإيراني بشكل أساسي على الفصيل الشقاقي التابع للجهاد الإسلامي في فلسطين. هذا الفصيل بالذات ليس له سجل حافل في الإرهاب الدولي، لكن يمكنه الحصول على قدرة بمساعدة إيرانية (هذا الفصيل شكّل الخلية العسكرية الأولى لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وعرف لاحقاً بـ “سرايا القدس”)”.
وفي شأن “حماس” التي تصفها الوثيقة بالنشطة ولديها علاقة، وإن كانت بعيدة بعض الشيء، مع إيران، تلفت الوثيقة إلى أنها “لم تقم بعمل إرهابي دولي، ولا يوجد دليل على أنها تخطط للقيام بذلك. كما يتلقى الحزب الشيوعي العلماني مساعدة إيرانية، لكن الإشاعات بأن المجموعة تنقل مقرها إلى إيران لم يتم نقلها حتى الآن”.
ومن “حماس” إلى “حزب الله” تكشف الوثيقة عن أن “إيران تواصل دعم حزب الله الذي أعرب عن معارضته الشديدة للاتفاق الأخير، وأكدت عزمها على مواصلة أنشطة المقاومة ضد إسرائيل والقوات والميليشيات المتحالفة معها. جيش لبنان الجنوبي، في جنوب لبنان. وعلى رغم أن حزب الله يحتفظ بقدرة إرهابية دولية واسعة النطاق، فإنه لم يفعل ذلك في سياق عملية السلام. ولا يزال الحزب يستجيب للسيطرة الإيرانية، ولم نرَ أي دليل يشير إلى أن إيران تنوي السماح لحزب الله بشن هجمات إرهابية دولية. لم تركز المنظمات الإسلامية المتطرفة غير الفلسطينية حملاتها بشكل عام على عملية السلام”.
وتتخوف الوثيقة من أنه “لا يزال هناك خطر من أن الأفراد الساخطين يمكن أن يتصرفوا خارج حدود هياكل المجموعة كما نعرفها حالياً. وستكون الأهداف الأكثر عرضة للخطر من مثل هذه الهجمات هي الإسرائيليين والولايات المتحدة والفلسطينيين المرتبطين بعملية السلام. ومن المرجح أن يكون موقع هذا النشاط هو منطقة الشرق الأدنى، لكن لا يمكن استبعاد وجود منطقة أبعد من ذلك”.
إيران رأت في “حزب الله” وسيلة ملائمة لشن عمليات إرهابية يمكن إنكارها
وتعود الوثيقة للفت الانتباه إلى أن “حزب الله” اللبناني “يحتفظ ببنيته التحتية الإرهابية وقدراته الواسعة في الخارج. لقد جرى إدانة الإرهاب الدولي لحزب الله في الماضي بعناية واستجاب للمتطلبات السياسية لراعيه، إيران. هناك خطر من أن إيران قد تنظر بشكل متزايد إلى نشطاء حزب الله على أنهم وسيلة ملائمة لشن عمليات يمكن إنكارها، أو على الأقل عمليات لن تتعرض فيها إيران لخطر التورط العلني، كما هي الحال في عمليات القتل في ميكونوس. وستكون الأهداف الغربية في لبنان معرضة للخطر بشكل خاص”.
الكاتب: حامد الكناني كاتب وباحث