الواجهات الحزينة
كل مَن يطلي واجهة بيته أو يرممها أو يجملها أو يصنع لوحة جمالية تسر الناظرين إليها
كتب- زكريا صبح
لست أدري سر الطمأنينة، التي تسكن روحي كلما وجدت أحدهم يعتني بواجهة بيته، شعور بالشبع أحيانًا، بالثراء أحيانًا، بالاطمئنان على مستقبل في علم الغيب، ما الذي يربط بين رعاية رجل لواجهة بيته مهتمًّا بها،
تجد السقالات منتصبة والعمال يسيرون بحذر فوقها، وآخرين ينزعون ما بلي من دهانات قديمة أو حجارة الديكور التي استحال لونها باهتًا، وشعور بالطمأنينة ينتابني؟!
ربما كان هذا الشعور نابعًا من تجاربنا الشخصية في بيتنا القديم إذ قررنا أن نرممها، (محارة وبياض)؛ بحيث تبدو جميلة،
كان إحساسًا رائعًا أن نقف أمام منزلنا البسيط ونحن في حالة انبهار بألوان الواجهة الجديدة، أظن أن الربط بين الطمأنينة والسعادة بواجهات البيوت التي يعتني بها أصحابها جاء من هنا، فلم نكن لنُقدِم على رعاية واجهة البيت وبيتنا خرب من الداخل، بل لما أتممنا ترميم الداخل استقر في ضمائرنا أن نتمم زينة البيت فنهتم بواجهته،
وهذا لم يكن ليحدث لو أننا لا نملك فائضًا من مال يجعلنا ننفقه على واجهة صماء لم تسألنا يومًا أن نعتني بها، بل كانت صابرة محتسبة تتحمل كل تقلبات المناخ في صمت، فما اشتكت أبدًا من حرارة شمس حارقة ولا رياح عاصفة تقف في مواجهتها دائمًا حائط صد، ولا اشتكت أبدًا من أمطار غزيرة تذيب حجارتها.
لكن أن نهتم بها فذلك يعني فائضًا عن حاجاتنا بعد تدبير حال معيشتنا من مأكل وملبس وعلاج وتعليم ودروس وكل ما يلزمنا، ومن هذا الفائض اعتنينا بواجهة بيتنا القديمة،
من هنا رسخ في اللاوعي لديَّ أن كل مَن يطلي واجهة بيته أو يرممها أو يجملها أو يصنع لوحة جمالية تسر الناظرين إليها، أقول رسخ في فكري أن مَن يفعل ذلك إنما يفعله لفائض لديه، إذن فهناك روائح ثراء تهب من هذه الواجهة التي يرممها أصحابها، حالة من طمأنينة تلفني وتُحدِّثني نفسي أن أهل هذا البيت ميسورون.
ويرتبط بهذا أن السائلين المحتاجين الفقراء الذين في جوار هذا البيت وهذه الواجهة المُعتنَى بها سينالهم من هذا اليسر بعضه، ومن هذا الإنفاق بعضه، وهنا تكون ابتسامة الرضا التي ترتسم على شفتَيَّ كلما وجدت أحدهم يعتني بواجهة بيته،
وعلى عكس ذلك تبدو الواجهات الكالحة نذير شؤم وعلامة فقر ودلالة إحباط ويأس، تبدو حزينة تئن ولا مستمع لها، باكية ولا يهتم بها أحد، تبدو كعجوز تجعدت بشرته وكمتسول لا يغتسل.
لوحة حزن عام ترسمها الواجهات الرديئة، رسالة تبثها الواجهات الفقيرة مفادها أن أصحاب البيوت هنا في فقر مدقع أو في حالة إحباط أو يأس، غير قادرين على الوفاء باحتياجات الداخل، فكيف سيهتمون بالخارج؟!
وبالضرورة تكون الرسالة أكثر وضوحًا عندما نفكر في الفقراء المحيطين بمنازل هؤلاء، لن يكونوا في حالة طمأنينة وسكينة وبِشر، هم الفقراء الذين لا بيوت لهم ويجاورون فقراء لا يهتمون بواجهات منازلهم،
لقد تخطت الأمور أن تكون الواجهات رديئة إلى أن تكون مهدمة، متردية تتساقط حوائطها في الشوارع كاشفة عن عجز قاطنيها وحزنهم الذي يتدلى من الشرفات التي أصبحت بلا أبواب أو شبابيك، كلما رأيت هذا المشهد انقبض قلبي وغامت روحي وتبعثرت أحلامي، وانتابني قلق مرعب على مستقبل لا يعلمه إلا الله.