المفكر الراحل عبد الله كمال كتب: التدليل المصري لدول حوض النيل
من نافذة صغيرة جدا.. مساحة ووقتا.. رأيت أثيوبيا.. زرتها ست ساعات.. أقل من الوقت الذى استغرقته رحلة الطيران إليها ذهابا وإيابا (ثماني ساعات).. ورأيت بعض شوارع عاصمتها أديس أبابا.. ودخلت فندقا.. ومحلا.. وتجولت في الطرقات نحو ساعة.. واشتريت مشغولات من الفضة الحبشية الشهيرة.. وقدرا من البن الأشهر.. وصافحت بعض مواطني البلد.. لكن المشهد الأهم هو ذلك الذى رأيته لها قبل أن تطأ قدماي أرضها.
من نافذة طائرة صغيرة: بدت أرضا خضراء شاسعة بلا انقطاع تقريبا منذ عبرت الطائرة حدود السودان. خضرة تكفى الأرض. وحين اقتربنا من أديس أبابا العاصمة الأثيوبية الشهيرة.. التي تربض في مطارها طائرة واحدة من أهم شركات الطيران الأفريقية تاريخيا – للدقة بعد مصر للطيران – ظهرت تحتنا تجمعات عمرانية متناثرة.. ظللت أبحث لها عن طرق تربطها بغيرها.. فلم أجد.. ما إن ينتهى التجمع العمراني لا تجد طريقا يصله بغيره.. مجتمعات معلقة.. وتلك مشكلة كبيرة جدا.. وتعنى أن البلد يعانى من مشكلة مواصلات وتواصل.
لاحت العاصمة. كل العواصم تبدو من أعلى كما لو أنها (ماكيت مدينة في مكتب مهندس استشاري).. تستطيع أن تكتشف من خلاله التنظيم.. والتخطيط.. ومدى الزحام.. ولو كنت تزور المكان ليلا فإنك تكتشف حجم الإضاءة والاهتمام بها.. وفى كل الأحوال تظهر أمامك الثعابين السوداء.. «الطرق».. معبرة عن حجم التقدم.. بدت أديس أبابا مبعثرة.. بلا طرق.. لا إليها ولا فيها.. قلت: لعل لون الأسفلت لديهم مختلف.. أو فيما يبدو فإن أغلب الطرق ترابية لا يمكن أن تٌرى من أعلى.. غير أنه لاح أمامي خط بنى ملتوٍ..فظننته طريقا.. ثم تبين لي فيما بعد أنه مجرى مائي.. لونه هكذا.. الماء بطينه.. وربما لهذا السبب فهمت فيما بعد أن أغلبية من يعيشون في (أديس أبابا) يشربون المياه المعدنية.. المياه العادية غير مضمونة غالبا.. وقبل فترة وجيزة كان أن تسبب اختلاط المياه بالصرف الصحي في انتشار الكوليرا.
قرب الليل، حين حانت ساعة العودة، لم أر العاصمة من أعلى بعد أن حل الظلام. كانت الشمس لم تزل في الأفق.. أتمتع بهذا المشهد (ليالي البلدان من أعلى). في باريس.. يا للروعة.. إنها مدينة النور. في هلسنكي: مزيج من الغابات المضيئة. في طوكيو : تمتعك حضارة إلكترونية.
في دبى: عناق بين الماء والعمران والضوء. في القاهرة: مشهد مترف من الإضاءات التي تخفى العشوائية. في أديس أبابا لم أكن في حاجة إلى هذا المشهد.. أولا لأن أديس لن تكون مضيئة.. إذ إن أغلبها مظلم.. والكهرباء لا تغطى إلا 5% من احتياجات أثيوبيا.. وبعض المطاعم شاعرية إلى درجة أنها تضاء بالشموع. وثانيا لأن المشهد قرب الليل من الطائرة سوف يكشف لك حقيقة ما تملكه أثيوبيا وتفاوضنا هي به.. جبال مالها العظيم.. ماؤها المخزون في السماء.. السُحب.
إن سحبها هي ثروتها. تمطر دائما. وقد فرحت (شخصيا) برهة بمناخها شبه الاستوائي. فاجتررت يوما زرت فيه أوغندا.. حيث كنا قرب بحيرة فيكتوريا.. منبع آخر للنيل. واجتررت أياما زرت فيها كوالالامبور على الجانب الآخر من الكرة الأرضية.. شرقا.. وقلت أستمتع ببعض قطرات المطر.. ذلك أنى عاشق له.. للمطر. أشار لي(ناصح أمين) كان يحتمى تحت مظلة ثابتة.. وقال : هنا.. إن لم تحترس من المطر.. فإنه سوف يلتهم كل ما عليك في لحظة وصولا إلى ملابسك الداخلية. وما إن أنهى نصيحته بينما أنا تحت المظلة جواره.. حتى هجم المطر كما لو أنه غول خرج من محبسه فجأة!
المطر هنا لا يفاجئ أحدا. إنه الثروة التي تبدع ماء النيل. و11 نهرا غيره في أثيوبيا. فهي ليست كما يظن البعض أسيرة النيل وحده مثلنا. لديها غيره كثير جدا. ومن ثم.. لأنه معتاد.. فإن مع الجميع تقريبا (شمسية) – يجب أن نسميها هنا «مطرية» أو غطاء بلاستيك.. لكن طرقات البلد ليست فيها مظلات كافية.. لو أنك كنت في بلد أوروبي لوجدت هذه الحماية متاحة.. أثيوبيا لم تستعد بعد لما لديها.. سواء لحماية الرؤوس.. أو لتقديم الفائدة من تلك المياه العظيمة لنحو 85 مليون نسمة يعيشون مبعثرين في مجموعة من الأقاليم التي يقضها التناحر بين قومياتها.. لولا سيطرة الدولة لو غفلت عن تلك السيطرة لأصبحت أمامها مشكلة كبيرة جدا.
مطار.. تبرع
بعض المطارات قد تكون عناوين البلدان. هكذا فرضت طبيعة الأمور على أساس أن المطار هو خالق الانطباع الأول لديك عن البلد الذى تزوره. ولهذا فإن كثيرا من المصريين كانوا يتضررون من حالة المطارات المصرية قبل أن تلحقها عملية الإصلاح الأخيرة.. لأنها لم تكن تعبر عن حال البلد.
في واشنطن المطار هو عنوان الحالة الأمريكية.. تدقيق قد يصل إلى حد السخافة. في هيثرو بلندن أنت أمام روعة تثير إدهاشك من انضباطها. في فرانكفورت أنت أمام تعقيد مماثل وتنظيم مدهش.. وأمن سخيف. في لارناكا القبرصية أنت أمام حالة متوسطة من الشكل والمضمون.
فى تونس أنت أمام أمر يدهشك جدا.. كيف بهذا المطار أن يستقبل البلد كل هذه الملايين من السائحين سنويا. في الكويت مطار منظم فيه مذاقان آسيوي وعربي.. في أثيوبيا ليس عليك أن تقيم نظرتك للبلد أو تكون انطباعا أوليا من خلال المطار.. فهو منظم ورقيق المشهد.. ولكنه يختلف كثيرا عن حال البلد.. وفيما بعد سوف تعرف أن السبب هو أنه تبرع قدمه الملياردير الكويتي ناصر الخرافي.
لكن مناطق أديس أبابا تقاس انطلاقا من المطار. هذه منطقة تبعد ستة كيلومترات من المطار. تلك تبعد كيلومترا واحدا.
واسمها (بولي رود).. إنه الطريق الذى شهد قبل سنوات محاولة الاغتيال الآثمة للرئيس مبارك.. كان الطريق مختلفا عما هو الآن.. ومن ثم كان مكشوفا أمنيا فأتاح للإرهابيين مدبري العملية ترتيب المحاولة.. وهذا هو السبب أيضا الذى أدى إلى نجاة الرئيس – والحمد لله – إذ تمكن الموكب من اللف والدوران بسرعة.. دون معوقات.
(بولي رود) الآن مزدحم بعض الشئ.. عمائر على الجانبين.. وأبراج متوسطة يعتليها زجاج ملون.. تتناقض مع ما يحيطها من بيئة مليئة بعشش الصفيح.. إن المهاجرين الأثيوبيين يعودون من الخارج بوفرة مالية تتيح لهذه البنايات أن ترتفع.. والدول المختلفة تقدم عن طريق شركاتها كثيرا من المنح والهدايا.. تبنى العمائر الحديثة.. التي تتناغم مع بعض من السيارات الفارهة التي تصادفك بين حين وآخر : هذه (هامر) مفاجئة.. وتلك (ميتسوبيشي) شاذة.. وألمح (تويوتا) تتسلل.. كلها رباعية الدفع.. لأن طبيعة البلد.. من ارتفاع إلى هبوط.. من هضبة إلى تل.. إلى طرق غير مرصوفة.. تفرض على الأثرياء القادمين من الخارج.. أو المستفيدين من أجواء الاستثمار المتصاعد في الداخل ألا يلجأوا إلى نماذج السيارات العادية.
بقية السيارات في المدينة تعود إلى موديلات قديمة.. التاكسي كله سيارات من طراز فيات (124) نادرة الوجود الآن في القاهرة.. بلونين أزرق وأبيض.. ميكرو باصات متهالكة تنقل الركاب بين الشوارع.. سيارات خاصة بعضها تم تركيبه من ماركات مختلفة.. إن الحالة في الشوارع تشير إلى ما كنت قد قرأته: أثيوبيا واحدة من أفقر دول العالم. . لكنها مشبوبه بالأحلام.. ورئيس وزرائها ميليس زيناوى مدفوع بطموحات رهيبة.. أتمنى أن يوفق إليها.
غير أننا كنا في سيارة عادية تأخذ الطريق نحو فندق شيراتون.. المعلم الرئيسي والوحيد تقريبا في (أديس أبابا).. قاهر الهيلتون.. المعلم السابق للعاصمة.. كان وزير الخارجية أحمد أبو الغيط في سيارة أمريكية.. تتلوه فايزة أبو النجا وزيرة الدولة للتعاون الدولي.. في سيارة أمريكية أخرى.. كلتاهما تتبع مراسم وزارة الخارجية الأثيوبية التي احتفت بالوفد المصري.. وكنت أنا وزميلي أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام.. برفقة السفير حسام زكى المتحدث باسم الخارجية المصرية.. الذى قضى مطلع عمره الدبلوماسي في أثيوبيا.. في سيارة مرسيدس عادية تخص سفير مصر في أديس أبابا.
إن السفارة هنا مليئة بالكوادر.. أضخم نوعا من سفارتنا بالسودان.. في أديس أبابا ستة دبلوماسيين بخلاف السفير.. وفى الخرطوم خمسة بالإضافة إلى السفير.. ولعل السبب هو أن في أثيوبيا مقر منظمة الوحدة الأفريقية.. حيث تشاهد معلما آخر مهما في العاصمة.. سوف تتغير ملامحه قريبا.. لأن الصين قررت أن تتبرع بمبنى جديد.. وللصين هنا أصابع كثيرة.. وجاليتها لا تقل عن 50 ألف شخص.. إنها الدولة التي يعتقد أنها سوف تمول بناء السدود المثيرة للجدل على نهر النيل.. سدود لا نرفض بناءها لكنها لاشك ينبغي أن تثير القلق.
المصريون الظالمون
إن عناق الأعين المباشر لمشاهد البلدان ضروري جدا لكى تعرف عمن تكتب. ولهذا فإنني سعدت جدا بدعوة السيد أبو الغيط للسفر إلى هذه الرحلة على مشقتها. قلت لمن اندهش للهفتي على تلك الرحلة التي لن تستغرق سوى ساعات: «أن ترى خير من أن تقرأ أو تسمع.. يهمني جدا أن أتابع العيون وهى تنظر إلى سيارة فيها مصريون.. هل المشاعر عدائية.. هل فيها خصومة.. هل فيها ود.. هل فيها غير ذلك.. لابد أن تشم بأنفك.. وأن تلمس بيدك.. التقارير والكتب لا تعطى انطباعات دقيقة.
وفيما يبدو فإنني كنت على حق. تغيرت انطباعاتي إذ وجدت العيون لامبالية. إلا مرة واحدة. كان أن قال لنا مواطن لا أستطيع أن أميز إن كان أثيوبيا أو عربيا: السلام عليكم. وسألت من كان إلى جواري يقود السيارة: كيف عرف أننا عرب؟ فقال لأن سيارات سفارة مصر مكتوب عليها رقم معروف (07).
لكن الكثير من الأثيوبيين تحت تأثير الدعاية الغريبة لديهم انطباع أن المصريين ظالمون. ينهبون النيل. كما لو أن هناك من يقول لهم إن ما ترونه من تقدم في التليفزيونات لدى هؤلاء القوم في الشمال نابع منكم أنتم. وكما لو أن هناك من يقول لهم إن التقدم الذى لديهم وليس لديكم ناتج من هذا النيل الذى يأخذونه وحدهم. أقول (كما لو أن) لأن هناك من قال لي إن الأثيوبيين يدرسون في المدارس أن مصر تحقق تقدمها من نيل أعطاه الله لأثيوبيا.. وقد حاولت جاهدا أن أصل إلى هذا النص.. أن أعرف الكتاب الذى يقوله.. لكنني لم أفلح.. وإن كنت سمعت هذا المعنى من كثيرين.
لكن ميليس زيناوي رئيس الوزراء الأثيوبي قال للوفد المصري: إن لدينا خطأين نقع فيهما.. نحن وأنتم.. من جانبنا أن نعتقد أن النيل حقنا وحدنا.. وأننا فقراء لا نجد ما نأكل.. ومن جانبكم أنكم تعتقدون أن أي أحد يقوم بعمل على النيل سوف يؤدى إلى منع وصوله إليكم وتعطيشكم وتجويعكم.. وقد أضاف: بقوة الطبيعة نحن لا يمكن أن نمنع نهر النيل من أن يصل إليكم .
إن حقائق الجغرافيا هي الأساس في هذه المعضلة التي تفجرت فجأة.. ومن بين حقائق الجغرافيا ما لم ينكره ميليس زيناوي.. حتى لو كانت بعض الصحف في مصر قد أوهمت الناس أن النيل سوف يجف غدا بمجرد توقيع خمس دول للبروتوكول الشهير.. بينما لم توقع عليه دولتان من دول المنابع السبع.. بخلاف أن مصر والسودان لم توقعا عليه لرفضهما إياه. ومن حقائق الجغرافيا أن دول حوض النيل تتمتع بكمية مياه مهولة.. ليست كلها في مجرى النيل.. إذ تقدر الكميات في البحيرات والناتجة عن الأمطار بنحو 1600 مليار متر مكعب.. في حين أن الجدل القانوني بين الدول يدور حول 84 مليار متر مكعب فقط هي التي تمر في مجرى النيل.
مشكلة المستقبل
لكن الأشقاء في دول الحوض، خصوصا في أثيوبيا، يرون أنه ليس من حق مصر أن تناقش ما لديهم من مياه.. وأن عليها فقط أن تناقشهم في كميات المياه المارة في نهر النيل وكيف يجرى اقتسامها.. وكيف يتم التعامل معها.. وتلك معضلة قانونية.. لها أبعاد سياسية.. ومن شأن القبول بها (مصريا) – لو حدث – أن يؤدى إلى مشكلة كبيرة.. قد لا تنشأ نتائجها الآن.. ولكنها سوف تظهر في المستقبل.
حقائق الجغرافيا، هي التي تدفع أثيوبيا إلى أن تتبوأ مكانة مميزة بين دول حوض النيل، باعتبارها دولة تبدو محورية في المنطقة.. على الأقل في القرن الأفريقي.. في المساحة الممتدة من الصومال وإريتريا إلى جنوب السودان وصولا إلى أوغندا وكينيا.. وقد جعلها هذا على صلة ممتدة بالغرب والولايات المتحدة.. في ضوء جهودها المتعاونة جدا في مجال مكافحة الإرهاب.. وصولا إلى حد التغاضي عن أمور لا يقبل الغرب التغاضي عنها في أوقات ومناطق أخرى.. منها حقوق الإنسان.
حقائق الجغرافيا، والبيئة، هي التي تجعل مصر تركز في مسألة مياه النيل – لاحظ الوفد المصري إلى أديس أبابا أن ميليس زيناوي لا يصف الأمر بأنه مشكلة ولكن بأنه مسألة – هي التي تجعل مصر تركز على أثيوبيا باعتبار أن 85 % من مياه النيل تأتى من رافد النيل الأزرق.. النابع من أثيوبيا.
حقائق الجغرافيا، داخليا، هي التي تدفع أثيوبيا إلى أن تبحث عن مشروع كبير يمكن أن يوحد القوميات المتناقضة.. إن لم تكن المتناحرة.. فيما بينها داخل الدولة الأثيوبية.. ذلك أن أثيوبيا بلد يضم 83 قومية وإثنية.. منها ثلاث عرقيات أساسية هي: الأورمو (40%)، والأمهرية (25%)، والتيجراي (8%).. والمشكلة أن كل قومية تقع في نطاق جغرافي محدد وبينها تجانس واحد ولغة واحدة ولها ثقافات فريدة.. وهناك خلافات إثنية حقيقية قائمة.. تفرض تحديا – لا يرقى إلى مستوى التهديد الآن – بين المتناقضين.
وفى هذا السياق يلحظ بالطبع الأوضاع المتفاوتة لحركات مسلحة، أو كانت مسلحة، مثل جبهة تحرير الأورمو، الجبهة الوطنية لتحرير إقليم أوجادين، الجبهة المتحدة لتحرير الصومال الغربي، وما تمثله قبيلتا النوير والنواك في إقليم جامبيلا الأثيوبي المتاخم لجنوب السودان.. والذى تخشى أثيوبيا من أن تتأثر أوضاعه إذا ما أدت الأمور إلى استقلال جنوب السودان.
وضع مثل هذا، مع فقر مدقع تقريبا.. رغم ارتفاع معدلات النمو.. مع ارتفاع معدلات النمو السكاني الرهيبة.. مع نشوء تطلعات الأجيال الجديدة.. يمكن أن يفسر لماذا تذهب أثيوبيا إلى مرحلة من هذا النوع فيما يخص مياه النيل.. بل قيادة بعض من دول الحوض إلى التوقيع الخماسي على بروتوكول «عنتيبي».
إن إلهام الشعوب الأثيوبية – هذا وصف دقيق فهي أكثر من شعب – بعمل ضخم، يبيع لها الأمل في المستقبل، إنما يؤدى إلى توحيد وحشد القوى خلف الدولة المستقرة.. بدلا من التناحر الداخلي.. ومن ثم فإن الحكومة الأثيوبية تطرح على الشعوب الأثيوبية مخططات السدود المولدة للكهرباء على نهر النيل.. وعددها ثلاثة.. ويفترض فيها أنها سوف تؤدى إلى توليد كمية من الطاقة الكهربائية يمكن لأثيوبيا أن تصدرها ليس فقط للمنطقة المحيطة.. وإنما كما تقول الآمال المعقودة على هذه المشروعات.. إلى أوروبا أيضا.
أسئلة حول السدود
مصر لا تمانع في بناء هذه السدود مع بعض التحفظات.. ولكن بغض النظر عن عدم الممانعة.. فإن علينا أن نسأل الحكومة المصرية: ما التقييم الفني لهذه السدود ومواصفاتها؟ هل هذا التقييم موجود أصلا؟.. من الذى أعده؟.. ومتى؟.. وعلى أي أساس لم يجد مانعا؟
سدود توليد الكهرباء لا تعرقل سير المياه في مجرى النيل في المطلق، ولكنها لكى تولد الكهرباء يجب أن تمتلئ البحيرات خلف تلك السدود قبلها أولا.. فكم سوف تستغرق عمليات (الملو).. سنة.. سنتين.. سبع سنوات.. حسب حجم كل بحيرة خلف كل خزان. حسنا: ولكن ماذا سوف يحدث لحصتنا المائية خلال تلك المدد.. هل نحن مستعدون لسنوات عجاف من هذا النوع الذى يخصم من حصتنا بينما الشقيق في أثيوبيا يملأ خزاناته؟
ثم، ماذا عن قدرة هذه الخزانات وطريقة بنائها.. إن بعض المعلومات تقول إنها سوف ترتفع إلى ما يزيد على مائتي متر من الحوائط الخرسانية.. في حين أن التكنولوجيا الضامنة لبناء الخزانات من هذا الطراز لا تتوقع لمثل هذا الارتفاع أن يكون محميا من الانهيار إذا ما زاد على 170 مترا.. فهل نحن ناقشنا أو سوف نناقش مثل تلك الأمور مع الصديق الأثيوبي.. ماذا سوف يحدث إذا ما انهار سد منها.. كل هذه المياه التي سوف تكون مخزونة خلف أي سد إلى أين سوف تذهب وماذا سوف تدمر في طريقها.. وهل تصلنا آثار ذلك؟
الكهرباء هي أمل أثيوبيا. وهى تحتاجه. لك أن تتخيل أن مصر تنتج الآن من خلال محطات التوليد المختلفة وليس من توربينات السد العالي وحده نحو 27 ألف ميجا وات.. في حين تنتج أثيوبيا 1300 ميجا وات فقط.. بينما عدد السكان متساوٍ تقريبا.. ولا تريد أثيوبيا أن تضيء بيوتها وتعمر مصانعها فقط.. ولكنها تريد أن تصدر الطاقة إلى جيبوتي وأوغندا وكينيا وغيرها من الدول المحيطة.. لعل هذا يوفر مصادر دخل إضافية.. ولعل هذا يمنحها نافذة نور على العالم.. بينما هي تعانى من مشكلة جغرافية معقدة بعد استقلال إريتريا.. فهي دولة مغلقة.. لا تطل على أي ساحل.
لوحة مذهلة
في بهو فندق شيراتون وقفت مشدوها أمام عدد من اللوحات المدهشة من قلب الفن الأثيوبي.. هذا شعب فيه عشق للفن.. وقد أعجبتني لوحة تخيلتها لوهلة صورة فوتوغرافية مكبرة جدا.. ثم تبين لي حين قرأت إلى ما جوارها أنها لوحة لفنان اسمه (تسيما).. بطول مترين وعرض 160 سم.. زيت على كانفاه.. عبارة عن تجسيد للخضرة التي تتوزع على بيئة أثيوبيا.. التي هي مزيج من الهضاب واللون الأخضر.. مرعى كبير وهائل.. تصلح منه أماكن ليست كثيرة للزراعة.. فالوديان عميقة.. لا يمكن احتجاز الماء من أجلها. هذا افتراض تعوقه طبيعة البلد.. وحكومته تدرك ذلك.. ومن ثم فإنه ليس من المدهش أن يقول ميليس زيناوي لأحمد أبو الغيط وزير الخارجية إن سريان النيل إلى مصر حق طبيعي.. وإن كانت هذه العبارة ذات دلالة سياسية وقانونية.
إن بعض الأثرياء العرب يزرعون مساحات كبيرة من الأراضي في أثيوبيا.. وهذا لن يؤثر على المياه التي ترد إلينا على أي حال.. الأرض تزرع في أثيوبيا بمجرد إبداء الرغبة لها.. والفلاحون هناك يكتفون بأن ينثروا البذور.. المطر يتكفل بالباقي من الجهد.. ولكن أنشطة أثرياء أشقاء عرب في مناطق أخرى قد يكون مؤثرا على حصتنا.. وعليهم أن يدركوا هذا.. أو أن علينا أن نجعلهم يدركون هذا بوضوح.
من هنا أنا أصدق لأسباب مختلفة أن أثيوبيا على المدى البعيد لن تسبب مشكلة جوهرية في كمية المياه الواردة إلى مصر.. خاصة إذا كان ما تريده هو الكهرباء فحسب.. ولكن ما الذى سوف يحدث إلى أن يحين هذا المدى البعيد؟
على الهامش هنا لابد أن أشير إلى أن القطاع الخاص المصري، ممثلا في شركة السويدي المنتشرة أفريقيا، قد قرأ الواقع الأثيوبي وآماله منذ فترة، وذهب إلى هناك حيث شيد عددا من المصانع للكابلات ولوازم الشبكات الكهربائية، رافعا بذلك رقم الاستثمارات المصرية في أثيوبيا إلى مليار ومائة مليون دولار.. للسويدي منه وحده ما لا يقل عن 75%.
خطوة مهمة
نعود إلى السؤال: ما الذى يمكن أن يحدث إلى أن يحين المدى البعيد؟
لقد خلقت أثيوبيا اتجاها بين دول حوض النيل، هو الذى قاد إلى المعضلة الحالية، ولاشك أنه لم يكن من الممكن لخمس دول أن تجتمع على توقيع البروتوكول لولا أنها ذهبت إلى هذا المنحى الذى أعتقد أن الجميع يحاول أن يلملم آثاره الآن.. وليس مصر وحدها.. فأصبح الموقف الحالي في الحوض بين دوله كما يلى (5/2-2).. خمس دول وقعت.. دولتان لم توقعا من دول المنابع.. دولتان في المصب تتخذان موقفا مناقضا للتوقيع على البروتوكول.
إن الاتجاه صوب أثيوبيا في ضوء تلك الحقيقة – دون أن نغفل بقية الدول في الحوض – يمثل بالتالي خطوة مهمة.. ولاشك أن زيارة الوفد المصري كانت إيجابية إلى الحد الذى دفع ميليس زيناوي لأن يقول للوزير أبو الغيط في حضور وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا: إن زيارتكم تعكس حكمة مصر ونضج سياستها الخارجية.
ولقد سجلت مصر موقفها خلال تلك الرحلة ببساطة السهل الممتنع.. وقال الوفد ما يمكن إيجازه فيما يلى: لقد تم توقيع اتفاقية هناك خلاف عليها، ولدى مصر والسودان موقف مستقر ومختلف حول تلك الاتفاقية.. ومن ثم فإن علينا أن نمضى (القاهرة وبقية دول الحوض، خصوصا أثيوبيا) في اتجاه إغلاق الثغرة ما بين الموقفين.. بينما تستمر في ذات الوقت عمليات السعي للتنمية وفق مبادرة دول حوض النيل.
وتتبنى مصر في هذا السياق مبدأ أن التنمية التي يمكن الاستفادة منها في نهر النيل بين دولة لا يجب أن تقتصر على الزراعة فقط.. ولا على توليد الكهرباء فقط.. وإنما في كل مجالات التنمية وبما في ذلك السياحة والمزارع السمكية وتنقية المياه وغيره.
كما أنه من الواضح أن مصر تسعى إلى معالجة الأمر بطريقة مختلفة.. بعيدا عن صخب وسائل الإعلام.. طريقة تؤدى إلى إعادة بناء الثقة.. وإزالة الحواجز النفسية.. وتقييم التعاون.. ودفعه للأمام. ولابد أن هذه الطريقة لن تتحقق – بالذات في بناء الثقة وإزالة الحواجز النفسية – إلا بمساعدة الإعلام.. وقد طلب زيناوي من الوفد المصري بوضوح أن يهيئ الإعلام المصري المناخ لذلك.. وهو ما طلبه الوفد أيضا من زيناوي فيما يخص الإعلام الأثيوبي.
التدليل أم الهرولة
بالإجمال، ومن خلال انطباعاتي في هذه الرحلة، وما استمعت إليه من الوزير أبو الغيط، وما استمعت إليه من قبل من مصادر أخرى، فضلا عن قراءات متنوعة، فإن من الواجب أن نناقش عدة مسائل حول هذا الملف برمته.. بينما نحن نبنى طريقة جديدة للتعامل مع الأمر.. ربما لكى نثق في جدية تلك الطريقة.. أو لكى نحصنها بما ينبغي أن تتحصن به.
إن عددا من المحللين يرى أنه لابد من السيطرة على الحماس المصري في التعامل مع دول حوض النيل.. ويرى أن مصر لا يجوز أن تنتقل من النقيض إلى النقيض.. أي أنه إذا كان من الخطأ أن نهمل هذه الدول التي تمثل مجالا حيويا لمصالحنا.. فإنه لا ينبغي أن يكون هناك عكس ذلك فجأة وبعد توقيع خمس من دول الحوض على البروتوكول الذى ترفض مصر التوقيع عليه.. بل إن البعض يصف هذا السلوك النقيض بأنه (هرولة) لا تجوز.
وجهة النظر هذه تصف الأمر بأنه تعامل باللين مقابل تعامل فيه عدوانية.. وأن العدوانية إذا لم يكن علينا أن نقابلها بعدوانية حتى لا تتفجر الأمور.. فليس من الواجب أن تواجه بمزيد من اللين.. وأنه لابد من أن يكون هناك موقف مصري يعبر عن الصرامة.. ولا أقول الحدة.
وبين تلك الرؤية، والمنهج الذى يرى أنه لا ينبغي ألا نعود إلى ما كنا عليه من شبه تجاهل لدول حوض النيل، أعتقد أنه يمكن الوقوف عند نقطة عدم الإفراط في إظهار الانزعاج من الموقف الذى بلغته خمس من دول الحوض.. بمعنى أوضح إن المنهج لا ينبغي أن يقع في فخ (التدليل).. وأن الرحلات صوب الجنوب لابد أن تكون منظمة.. تجمعها رؤية.. ولا تتبعثر بين الرغبات اللاهثة كما لو أن الملف سوف يجد حلا أخيرا خلال شهر.
إن بعض التدليل مطلوب.. وعلى سبيل المثال تساهم مصر في تقديم خدمات طبية مميزة لأثيوبيا خصوصا في مجال علاج الملاريا وهو مرض خطير ومزعج هناك.. هذا وقتها لا يكون تدليلا وإنما تعاون مثمر يؤكد حسن النوايا.. ويثبت للشعوب الأثيوبية التي ملأت عقولها بدعاية مضادة ضد مصر أننا لا نقف على النقيض منها كما تعتقد أو كما أقنعت.
كما أن الاستمرار في جلب مزيد من الواردات الأثيوبية من اللحوم الحية أو المجمدة هو أمر مفيد للجانبين.. وعلى الحكومة أن تقف بوضوح في مواجهة لوبي اللحوم الواردة من أمريكا اللاتينية الذى أعاق استمرار توريد اللحوم الأثيوبية لفترة من الوقت.. وأن تتوقف بعض الصحف عن الدعاية المضادة لها.. خاصة أن أثيوبيا هي ثالث دولة من حيث حجم الثروة الحيوانية حول العالم.. ولديها كميات وفيرة وبأسعار ملائمة للمستهلك المصري.
ولكن هذا التعاون لابد له أن ينتبه إلى أهمية أن نحتشد في اتجاه الدولتين اللتين لم توقعا على البروتوكول حتى الآن.. رواندا وبورندي.. بقدر ملموس.. وملحوظ.. وبحميمية لائقة.. حتى لو كانت كميات المياه الواردة إلى النيل من بقية الدول بخلاف أثيوبيا لا تزيد على 15 % من إيراد النيل.
من جانب آخر، أدركت جميع الدول الموقعة على الاتفاق الإطاري، أو البروتوكول، أنه لا يمكن أن تحصل أي منها على تمويل مشروعات تنموية على النيل في إطار المبادرة التي تضم كل دول الحوض، من المانحين الذين يرعون المبادرة بدون أن يكون هناك تراضٍ بين كل دول الحوض على هذه المشروعات.. ومن الطبيعي أن مصر أبلغت كل الدول المانحة – وهو ما اكتشفته أثيوبيا لاحقا – بأن هناك خلافات وعدم تراضٍ حول البروتوكول.. ومن ثم فإن دول حوض النيل أدركت حجم المأزق الذى قد يجعل الاتفاق الإطاري كما لو أنه غير موجود وغير مثمر.
ومن ثم فإن عددا من دول الحوض بدأت في الاتجاه نحو من يوصفون بأنهم (المانحون الجدد).. وهم أطراف لم تكن لها علاقة بالإقليم.. وأغلبهم من الوافدين على القارة الأفريقية.. والطامحين إلى مزيد من ثرواتها من خلال مشروعات مختلفة. ولابد أن مصر لديها رسالة محددة إلى هؤلاء المانحين الجدد الذين يخلون – ربما دون أن يدروا – بحقوق مصرية أصيلة أو يضعون في طريقها عقبات غير مفترضة.. وبالتالي فإن المعنى الذى لابد أن يكون قد بلغ هؤلاء وفيهم أصدقاء وقد يكون فيهم أشقاء أن مثل هذه المشروعات لو مولت بدون التراضي فسوف يكون هذا سلوكا لا يعبر عن الصداقة.
لقد سافرت إلى أثيوبيا ست ساعات، في زيارة ناجحة قام بها وفد مصري معبرا عن منهج جديد في التعامل مع دول حوض النيل، وعلى الرغم من قصر مدة الزيارة، إلا أن الفائدة التي حققتها كانت كبيرة للغاية.. فقد بدا الأمر كما لو أن الساعات الست مجرد نافذة أطل منها على ملف كبير ومعقد.. ولاشك أنه سوف تتلو تلك الإطلالة نظرات أكثر عمقا.
*الكاتب الراحل هو رئيس تحرير مجلة وجريدة روز اليوسف، وعضو مجلس الشورى
المقال نشر لأول مرة في 10 يوليو 2010