سعيد عكاشة يكتب: لماذا تنجح الوساطات المصرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟!
كما كان متوقعاً ، وحدها الوساطة المصرية بين إسرائيل وحركة الجهاد الفلسطينية، هي التي نجحت في استعادة التهدئة بين الجانبين بعد خمسة أيام من القتال والهجمات المتبادلة بين الطرفين. أثناء احتدام القتال، كانت أطراف عديدة عربية وإقليمية ودولية تناشد الجانبين المتحاربين وقف الحرب بينهما، ولكن من دون أن يطرح أي من هذه الأطراف نفسه كوسيط لحل الأزمة، وذلك لأسباب عديدة، أهمها أن الدور المصري، في حل الأزمات بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى خمسة عشر عاماً، قد برهن على مدى فاعليته مقارنة بكل أدوار الوساطة التي عرضتها قوى إقليمية ودولية كبرى في أزمات سابقة.
فاعلية ونجاعة الدور المصري تأتي من عناصر عديدة، على رأسها:
أولاً: المصداقية والتوازن
بعد انتصارها الكبير في حرب أكتوبر عام 1973، أطلق الرئيس الراحل أنور السادات شعاره الشهير “حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب”. وحينها لم يصدق أغلب قادة إسرائيل أن مصر ستتبنى السلام كخيار استراتيجي لا رجعة فيه، وعبر أزمات عديدة مرت بها العلاقات المصرية – الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق السلام بين البلدين عام 1979 وحتى اليوم، برهنت مصر على صدق توجهها نحو السلام ونبذ خيار الحوار بالسلاح، وكما كان منطلقها للسلام من موقع القوة بعد انتصار أكتوبر، فإن علاقتها بإسرائيل لم تأت على حساب القضية الفلسطينية من منطلق إيمانها بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة. ويكفي للتذكرة أن مصر قامت بما يلي:
1- أصرت على انتزاع وثيقة الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة وغزة إبان مفاوضات كامب ديفيد عام 1978.
2- دعمت اتفاقات أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، والتي كانت أقل من الحكم الذاتي للفلسطينيين في كامب ديفيد، ورغم ذلك لم توجه اللوم للفلسطينيين على إضاعة فرصة الحكم الذاتي الشامل للضفة وغزة، وبقت على موقفها المناصر لاختيارات الشعب الفلسطيني أياً كانت، وعلى الأخص حينما أطلق انتفاضته الثانية عام 2000.
3- لم تتدخل مصر لصالح أي من طرفي الأزمة بعد استيلاء حركة حماس على قطاع غزة وانفصالها به عن السلطة الفلسطينية، وظلت ترعى مفاوضات توحيد الصف الفلسطيني وهي على مسافة واحدة من السلطة وحركة حماس.
4- منذ اندلاع المواجهات بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2008 وحتى اليوم، لم تدخر مصر جهداً للضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها على الفلسطينيين، في الوقت الذي قدمت فيه مساعدات مادية كبيرة لسكان قطاع غزة للتخفيف من الأزمات الاقتصادية التي كانوا وما يزالوا يعانون منها.
ورغم السياسة المصرية الداعمة للفلسطينيين، إلا أن إسرائيل إيماناً منها بصدق التوجه المصري الاستراتيجي نحو تهدئة الصراعات المسلحة في المنطقة العربية عامة وفي الأراضي الفلسطينية خاصة، والسعي لحل الأزمات عبر طاولة التفاوض وليس عبر الاقتتال بالسلاح، ظلت تراهن على الدور المصري كوسيط يمكن الثقة في قدرته إلى الوصول لنتائج إيجابية وسريعة في أقل فترة زمنية ممكنة.
باختصار، من دون الثقة في نوايا مصر نحو توسيع نطاق السلام سواء من الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي كان من الصعب تصور دور مصري أثبت فاعليته وعلى الأخص في إيقاف القتال بين إسرائيل وحركة الجهاد الفلسطينية بعد خمسة أيام فقط من اندلاع الصراع.
ثانياً: تراكم الخبرات
مما لا شك فيه أن مصر اكتسبت خبرة كبيرة لا تضاهيها أي خبرة أخرى في المنطقة في التعامل مع المواجهات المتكررة التي تقع بين إسرائيل والفلسطينيين، وخلال السنوات الخمس الأخيرة يمكن ملاحظة التالي :
1- قيام مصر بجهود كبيرة لتفكيك الأزمات بين الطرفين قبل انفجارها، وهو ما يحدث بشكل متكرر من كل عام، حيث تكون مناسبة الاحتفالات القومية والدينية عند الجانبين فرصة لإطلاق العنف المتبادل، وعادة ما تسعى مصر لتكثيف اتصالاتها بالجانبين وتقديم الاقتراحات التي يمكن أن يتفاوض حولها الطرفان لاستباق تدهور الأوضاع.
2- عندما لا تنجح جهود منع المواجهات من الوقوع، تزيد مصر من تدخلها لاستعادة التهدئة، فتؤكد لإسرائيل على أن استمرار العدوان على الشعب الفلسطيني يمكن أن يؤثر على استقرار السلام بين مصر وإسرائيل، وعادة ما ينجح هذا الأسلوب في تليين المواقف الإسرائيلية التي ترفض المغامرة بتعريض السلام المستقر مع مصر منذ سنوات لأية هزات، وعلى الجانب الآخر تركز مصر على تذكير حركات المقاومة الفلسطينية بأن من واجبها حماية الشعب الفلسطيني، وأنه لا يمكنها (أي هذه الحركات والتنظيمات) الاستمرار في حروب لا يدفع ثمنها سوى الأبرياء العزل من السلاح والذين يفتقرون إلى أية وسائل لحمايتهم من العدوان.
3- منذ عام 2014، نجحت الجهود المصرية ليس فقط في استعادة التهدئة بين إسرائيل والفلسطينيين، بل أيضاً في تقصير مدة المواجهات وصولاً للتهدئة، فقد تغلبت مصر على ذلك بوضع أكثر من مقترح لإنهاء الأزمة يتم تقديمها متتابعة، حتى لا يكون هناك مجال لترك الساحة للغة القوة ريثما يتم صياغة مقترح جديد بدلاً من الذي لم يتم قبوله من الطرفين أو أحدهما، وهو ما تبدى في الأزمة الأخيرة، حيث كانت حركة الجهاد تطالب باستعادة جثمان أحد قادتها الذي تُوفي في سجن إسرائيلي قبل أسبوع من اندلاع المواجهات (خضر عدنان)، كما طالبت بتعهد إسرائيل بعدم الاستمرار في سياسة اغتيال قادتها. بينما كانت إسرائيل تتبنى شعار “الهدوء مقابل الهدوء” ليس إلا. في مواجهة هذا الوضع، انتزعت مصر موافقة الطرفين سريعاً على اقتراح بديل “يلزم الطرفين بالامتناع عن توجيه الضربات للمدنيين”، والتعبير الأخير يعني الأمرين معاً، بمعنى أن تكف إسرائيل عن اغتيال القيادات السياسية في الجهاد، في مقابل أن تتوقف الحركة عن قصف المدن الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة.
أيضاً تحسبت مصر من خلال خبرتها في تفكيك مثل هذه الأزمات، لإمكانية انفلات الأوضاع في الدقائق الأخيرة التي تسبق الالتزام بالتهدئة من الجانبين، فمن المعروف أن كل طرف من الطرفين المتصارعين كان يحرص في السابق على أن يكون صاحب الضربة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار حتى يوحي لشعبه بأنه تمكن من ردع خصومه الذين لم يردوا على الهجمات الأخيرة له.
بسبب خبرة مصر المتراكمة في هذا الجانب، كانت الاجتماعات الأمنية المكثفة من جانب فريق الوساطة المصرية بالقيادات الفلسطينية في غزة للالتزام بمبدأ تزامن وقف إطلاق النار من الجانبين، ورغم أن حركة الجهاد أطلقت عدداً من القذائف صوب إسرائيل قبل دخول التهدئة حيز التنفيذ بدقائق، إلا أن مصر طالبت إسرائيل بعدم الرد كون الطائرات الإسرائيلية التي كانت تحلق فوق قطاع غزة في نفس التوقيت هي أيضاً نوع من ممارسة استعراض القوة والردع قبل دقائق من تطبيق التهدئة، وبالتالي تمكنت مصر من تفادي التمددات غير المسيطر عليها من الجانبين المتقاتلين كما كان يحدث في صدامات سابقة.
ثالثاً: الترحيب الدولي
على مدى سنوات طويلة منذ سبعينات القرن الماضي، أصبح الدور المصري في مواجهة الأزمات التي تهدد الأمن والاستقرار العالميين، يحظى بالاحترام والترحيب، فبالإضافة لقيادتها مسيرة السلام مع إسرائيل عام 1977، مروراً بإسهامها في منع وقوع مذبحة للفلسطينيين على يد إسرائيل أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، وموقفها الحاسم من الغزو العراقي للكويت وقيادتها للجهود العربية لرفض الغزو، وانتهاء بتصديها منفردة للإرهاب على كافة حدودها، وبأدوارها الحالية لمعالجة الأزمات المنتشرة في ليبيا والسودان.. بالإضافة لذلك كله، تصدت مصر وحدها لمعالجة التدهور الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين في وقت تنشغل الولايات المتحدة وأوروبا في معالجة أزمة الحرب الأوكرانية – الروسية، وهو ما خفف العبء على المجتمع الدولي ومنع تشتيت جهوده على أكثر من جبهة في نفس الوقت، وذلك على الرغم من أن مصر كانت من أكثر البلدان التي تضررت من هذا الصراع الأخير وما تزال.
من هذا المنطلق، يبدو منطقياً مدى ثقة المجتمع الدولي في نهوض مصر بمعالجة الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو ما عبرت عنه الإشادة الكبيرة بالدور المصري لاستعادة الهدوء بين الطرفين، مما يؤكد على المكانة الدولية لمصر، وعلى دورها كأحد رواد صناعة الاستقرار والسلام في العالم.
*الكاتب: خبير مشارك في مركز الأهرام الاستراتيجي، والمقال منقول عنه
*المقالات تعبر عن أراء كتابها