قراءة مختصرة لكتاب “المتلاعبون بالعقول”
نشر الكتاب عام 1974، للمؤلف هربرت أ.شيللر، الكتاب رسالة تحذيرية من الطرق التي استغلتها السياسة الأمريكية في السيطرة على عقول المشاهدين من خلال، (التليفزيون، واستطلاعات الآراء، والمجلات).
يقدم الكتاب تحليلاً موضوعياً لواقع الأعلام الأمريكي، ودراسة تتبعيه لآليات العمليات الخفية المتحكمة بوسائل الأعلام، ودور الشركات العملاقة في قيادته، والسيطرة عليه، وتوجيهه لخدمة أهدافها ومصالحها، في داخل الولايات المتحدة، وخارجها ، لتحقيق الهيمنة على العالم.
يعتبر هذا الكتاب رسالة تنبيه للشعب الأمريكي، ولشعوب العالم، لمواجهة هذا الغزو المستمر والدائم لعقول الأفراد والمجتمعات.
الكتاب في الواقع يتحدث عن حقبة زمنية انتهت.. ولكن هذا لا يقلل من أهمية الكتاب الذي يؤسس لنا نظرة عن تلك الشركات التي قامت ولازالت تسيطر على أهم وسيلة للاتصال بالشعوب والتأثير على المشاهدين رغم تطورها الكبير منذ ذلك الحين.
بدأت تظهر في تلك الفترة (فترة تأليف الكتاب) وسائل الإعلام الضخمة في الانتشار داخل أمريكا وخارجها، وبدأ معها تصدير ثقافة أمريكا الشمالية، من خلال الشركات العابرة للقارات.
تحدث الكاتب عن التليفزيون وعن الشركات التي تملتك قنواته، والأساليب التي تستخدمها في طرح البرامج والأفكار وكيفية إخراجها للمشاهد، بقوله أنها مؤثرة على عقول المشاهد .
وكيف ساهمت هذه الوسائل في دعم العمليات الانتخابية والتأثير على المشاهدين وعامة الشعب.
وذكر نقطة مهمة مازالت حتى وقتنا الحاضر” كيف شاع عن هذه القنوات وبالأخص الأمريكية أنها ديمقراطية ثقافية” واستمرت في إخفاء الكثير من الحقائق وبث برامج أخرى.
المثال الذي يعرضه الكاتب أن الشعب الأمريكي كان يعلم عن ملكة جمال أمريكا و جون ديلنجر أضعاف ما يعرفه عن إضراب الصلب المحدود والحرب الإسبانية الأهلية.
وأهمية القوات الأمريكية الموجودة خارج بلادها، ودورها في حماية المصالح الأمريكية وشركاتها العابرة للقارات.
وعن الإنفاق العسكري الغير معلوم في ذلك والوقت، ويتبعها لجنة الطاقة الذرية و الوكالة القومية للفضاء ( ناسا) وخدمة المصالح السياسية الأمريكية في المقام الأول.
ثم تتطرق إلى “ديزني لاند” كيف بدأت وكيف تحولت لخدمة المصالح الأمريكية. “ومجلة ناشيونال جيوجرافيك” وتحولها لخدمة الأراضي الأمريكية وإحكام السيطرة عليها وعلى قنوات التليفزيون وعلى شركات استطلاع الرأي التي اندمجت في النهاية مع القنوات الفضائية.
” إن أحد مقاييس فقدان أمة لسيطرتها على وسائل اعلامها، يتمثل في درجة اختراق الوكالات الأجنبية في تلك الدولة”، وهذا ما سعت إليه أمريكا وحققته.
تضليل عقول البشر هو، على حد قول باولو فرير “أداة للقهر”. فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى “تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة”.
و عندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح، تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة.
على أن تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية.
فالحكام لا يلجئون إلى التضليـل الإعلامي -كما يوضح فرير- إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخيـة.
أمـا قـبـل ذلـك، فـلا وجود للتضليل (بالمعنى الدقيق للكلمة)، بل نجد بالأحرى قمعا شاملا، إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين، عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع .
قسم المؤلف كتابه إلى ثمانية فصول مع مقدمة قصيرة.
يؤكد أن التضليل الإعلامي، والوعي المعلب، في مضمونه قائم على خمس أساطير :
1ـ أسطورة الفردية، والاختيار الشخصي.
ويرى المؤلف إن حقوق الفرد المطلقة ليست سوى أسطورة، ولا يمكن الفصل بين الفرد و المجتمع، ومع ذلك فإن الحرية في الغرب تعني ( وجود اختيار جوهري ).
2ـ أسطورة الحياد.
التضليل الإعلامي، يقتضى واقعاً زائفاً، إذ يجري تضليل الشعب بحياد مؤسساته الاجتماعية الرئيسة (الحكومة ـ التعليم ـ العلم )، بعيدة عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة، لكن الحقيقة غير ذلك، فانتخابات الرئاسة عام 1972 مورست تحت رعاية المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون، وأعترفت الصحافة إن العديد من التحقيقات لا يتوخى الإنصاف والموضوعية، لأن وسائل الإعلام جميعها تجارية، أما العلم فإنه قد اندمج في اقتصاد المؤسسات العملاقة، حتى التعليم في جميع مراحله، يظل خريجوه مقيدون ( بالأخلاقيات التنافسية للمشروع الفردي).
3 ـ أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة.
إن النظرية التي تؤكد على الجانب العدواني في السلوك الإنساني، وعدم قابلية الطبيعة الإنسانية للتغيير، تلقى قبولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الاقتصاد المبني على الملكية الخاصة والحيازة الفردية، والمعرض دائماً للصراعات الشخصية، يبتهج كثيراً بمثل هذا التفسير، الذي يضفي المشروعية على مبادئه الأساسية، والمؤثرة في الواقع، على حد تعبير المؤلف.
ومضللي العقول يرون التغييرات الكبيرة في العالم، مجرد تغييرات فيزيائية، ولكنهم ( يحجمون بحرص بالغ عن التعرض للتغييرات الحادثة في العلاقات الاجتماعية، أو في ألبني المؤسساتية التي تشكل الدعامة الأساسية للاقتصاد ).
4ـ أسطورة غياب الصراع الاجتماعي.
الصراع كما تصوره الأجهزة القومية لصنع الأفكار والتوجهات العامة، هو في الأساس مسألة فردية (لا وجود أصلاً لجذور اجتماعية للصراع ) وإن ( سيطرة النخبة تقتضي تجاهل، أو تحريف الواقع الاجتماعي) فالمناقشة الجادة للصراع الاجتماعي تصيب الشركات ذات النفوذ الاقتصادي بتوتر بالغ على حد تعبير المؤلف، وبذلك تستبعد أي برنامج يحتوي مادة ( خلافية ) أو (مثيرة للجدل ) وتستعيض عنه ببرامج الترفيه، والإنتاج الثقافي، والتسلية الجماهيرية التي تتبناها الأجهزة الإعلامية .
5 ـ أسطورة التعددية الإعلامية.
فعلى الرغم من هذا الكم الهائل في وسائل الإعلام والثقافة، يظل المضمون واحد، والفرق يتمثل في “وهم ” حرية الاختيار .
تظل وسائل الإعلام الأمريكية، تجارية احتكارية تنفي وجود الاختيار فيما يتعلق بالمادة الإعلامية، وان شرط التعددية، الخالي تماماً من أي تنوع، يوفر القوة للنظام السائد لتعليب الوعي، ويوفر أيضاً الدعم المستمر للوضع القائم، و( هذا الإنتاج يجري لتحقيق أهداف متشابهة، هي جني الأرباح، وترسيخ دعائم مجتمع الملكية الخاصة الاستهلاكي ).
وفي الفصل الرابع يكشف لنا المؤلف عن الثقافة الشعبية القائمة على الترفيه والتسلية ، التي تصنع في معامل( مادسون أفيمي، وهوليود ) بالكلمة والصورة، تسودها أسطورة مركزية واحدة، تؤكد أن الترفيه والتسلية مستقلان عن القيمة، وتوجدان خارج العملية الاجتماعية.
أما الفصل الخامس يبحث في صناعة استطلاع الرأي.. تلك الصناعة الاجتماعية التي تمثل أحد العناصر البالغة الأهمية في صناعة الوعي، ويركز على الجوانب التالية:
1 ـ التاريخ الحديث لاستطلاع الرأي في الولايات المتحدة .
2 ـ استخدام الاستطلاعات في الداخل والخارج .
3 ـ تقويم دور الاستطلاعات في مجتمع منقسم اجتماعيا.
ثم يوضح تجربة ما وراء البحار، والتي تعالج مسألة ” إعلاء شأن أمريكا ” ، ثم يرد على مزاعم المشرفين على استطلاع الرأي، والذين يقرون بوظيفتين:
تدعيم الديموقراطية، وتوفير المعلومات الموضوعية .
وبعد ذلك يخرج باستنتاج هام مفاده أن استطلاعات الرأي لم تقصر في خدمة أهداف الديموقراطية، بل خدمتها بطريقة تؤدي إلى كارثة، فقد كرست مظهراً خادعاً من روح الحياد والموضوعية، كما عززت وهم المشاركة الشعبية، وحرية الاختيار، من أجل التغطية على جهاز توجيه الوعي والسيطرة على العقول.
وفي الفصل السادس يستعرض الشركات القومية الأكثر إعلاناً عن منتجاتها، والدور الواسع النطاق في اتصالات ما وراء البحار، لإغراق المجتمع العالمي بسيل من الرسائل التجارية، ولاختراق الاتصالات ذات الجماهيرية الملموسة، من أجل السيطرة الكاملة عليها ، وتحويلها إلى أداة للثقافة التجارية ، ولتحدث تغيرات أساسية في المحيط الثقافي للبلاد ، لتتوافق مع متطلبات الإنتاج السلعي للشركات متعدد الجنسيات، ثم يستعرض المكاتب الاستشارية، ومكاتب السمسرة الأمريكية في الخارج، ودور النشاط التجاري الصناعي في السوق العالمية، الذي أخذ يؤثر في عملية صنع القرار ، على المستوى القومي ،في عدد لا يحصى من البلدان ، في كل القارات .
أما في الفصل السابع فيرى المؤلف توجيه العقول في بعد جديد.. من قانون السوق إلى السيطرة السياسية المباشرة .
لقد اضطر النظام الصناعي الغربي نتيجة لإدراكه المتنامي لضعفه الخاص، إلى البحث في مبدأ تدخل الدولة ؛ ومع تقدم التنظيم والتحكم، نمت البيروقراطية الحكومية، ونمت طبقة أخرى ، شاغلها الأساسي، هو الحفاظ على التوازن الاقتصادي ، والمزيد من الاعتماد على التكنولوجيا ،وبعد الحرب العالمية أصبح الاقتصاد الأمريكي ، يعتمد على زيادة القوى العاملة ، في مجال الخدمات، وليس الإنتاج.
فكان لابد من استخدام وسائل الإعلام ، كأدوات بالغة الأثر على القوة العاملة، وإحكام السيطرة عليها.
الإعلامية التقليدية ، كما أن مشاركة العديد من الناس في النشاط الإعلامي ، بمبادراتهم الخاصة ، هو أقوى دفاع على الإطلاق ، يمتلكه أي مجتمع ، في مواجهة السيطرة الإعلامية ، وتوجيه العقول .