زمن الـ”سايبورج”
يمكننا ان نصفه بزمن نهاية عصر الإنسان العادي والانتقال إلى حقبة ما بعد البشر.
هل ستنتصر الآلة على بقايا البشر في زمن الـ”سايبورج”؟
في أواخر شهر يناير الماضي أعلن علماء أميركيون ابتكار خلايا”سايبورج” اصطناعية متعددة الاستخدامات من خلال عملية كيماوية معقدة، وهذه الخلايا تشترك في عدد من الخصائص مع الخلايا الحية، لكنها تفتقر إلى القدرة على الانقسام والتضاعف والنمو مثلها حتى الان.
هذا التطور في خلايا الـ”سايبورج” يمكن أن يجد له في عالم الواقع تطبيقات عدة ومفيدة ومثيرة في الوقت عينه بدءاً من علاج بعض الأمراض المستعصية مثل السرطان ووصولاً إلى القضاء على التلوث.
مهندس الطب الحيوي من جامعة كاليفورنيا تشيمنغ تان لديه “خلايا سايبورج” قابلة للبرمجة ولا تنقسم وتحافظ على أنشطة الخلايا الأساسية بما في ذلك التمثيل الغذائي الخلوي والحركة وتخليق البروتين والتوافق مع الدوائر الجينية، وتكتسب قدرات غير أصلية، وهو ما أكده باحثون في دراستهم التي نشرت في مجلة .(Advanced Science)
فما هو الـ “سايبورج”؟
تناول الفيلسوف الألماني غريب نيتشه فكرة الـ”سايبورج” أنهم مجرد بشر لديهم الرغبة في الوصول إلى فكرة الإنسان الأعلى ذو القدرات الخارقة.
أي ظهور طفرات من كائنات لا تعرف الكرة الأرضية لها مثيل من قبل، مثل انتهاء مسألة الجنس البشري من ذكر وأنثى.
كائن الـ”سايبورج”
هو كائن يتكون من مزيج من مكونات عضوية وبيو- ميكاترونية، ويعود مصطلح الـ “سايبورج” للعالمين الأميركيين مانفريد كلاينز وناثان كلاين، وتم نشره في مجلة “الملاحة الفضائية” في عدد سبتمبر من عام 1960، مما يعني أن المصطلح ليس حديثاً حتى إن الناس تابعوه عبر شاشات التلفزيون والسينما من خلال أشكال كائنات ميكانيكية في ظاهرها مثل الانسان في حلقات “ستار تريك” التلفزيونية الأميركية أو “دارث فيدر” في حرب النجوم.
وفكرة هذا الكائن تكاد تكون سعياً في طريق “السوبرمان”، ذلك الشخص الذي يمتلك إمكانات جسدية وعقلية تفوق الإنسان الاعتيادي، وتم تصميمه ليحتوي في داخله أسلحة تتيح له تنفيذ عمليات تفوق قدرات الانسان العادي.
فطبقة الـ”سايبورج” إذاً هي الأشخاص الذين دمجوا أجسادهم بالتكنولوجيا، وقيل في موضع آخر إنه تم حقنهم بالفعل بشرائح الـ “نانو” تكنولوجية، أي التي لا يمكن رؤيتها أو التعاطي معها بالعين المجردة. وتلك الرقائق أو الشرائح تزيد قدراتهم وتحديهم لأنفسهم وللآخرين، وهنا يتساءل المفكرون هل فكرة الـ”سايبورج” هي بداية لتصدع في عالم العلاقات الاجتماعية، كما يذهب إلى ذلك المفكر الأميركي الجنسية الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما.
وربما يكون الأمر بالفعل على هذا النحو بعد طرح فكرة الإنسان الاعتيادي، والذي قد يحمل نوعاً من “الهدم الخلاق”، بحسب تعبير الاقتصادي الأميركي الشهير جوزيف شومبيتر.
ويبدو حديث الـ “سايبورج” وكأنه تحقيق الأسطورة عبر التكنولوجيا، وعليه فقد يصبح من الممكن في زمن ليس بعيد ظهور “هيركليز”، بطل الميثولوجيا الإغريقية الشهير ابن الإله زيوس، الذي اشتهر بقوته الخارقة وله عدد من المغامرات التي قدمتها السينما العالمية.
لم يعد الكلام عن الرجال الـ “سايبورج” تنظيراً علمياً، فقد طرح العلماء حالات عدة خلال السنوات القليلة الماضية، والبقية ستأتي عن قريب.
في عام 2014 كانت البداية من خلال “نيل هاريسون” الرجل الذي يعاني مرض “عمى الألوان”، وبدا المشهد وكأنه مقطع من فيلم هوليوودي لا يكاد يصدق من خلال وضع هوائي في رأسه ليساعده في تمييز الألوان.
وجرت التجربة الأولى على يد العالم آدم فونغاتدون الذي صمم هوائي مرتبط بكمبيوتر وزنه خمسة كيلو غرامات وسماعات أذن، تنقل عدسة الكاميرا إلى دماغ هاريسون الصور التي تقسم ألوانها ثم تنقل عبر السماعات إلى أذنه على شكل 360 موجة صوتية
واستطاع هاريسون رؤية الألوان وتمييز الأخضر والأحمر والأزرق إضافة إلى الأشعة تحت الحمراء.
ولم يكن هاريسون هو الحالة الأكثر شهرة إذ اعتبر الدكتور “بيتر سكوت مورجان”، أول إنسان”سايبورج” في العالم، وهو الإنجليزي الجنسية الذي أصيب بـ “العصبون الحركي”، وهو مرض يصيب الخلايا العصبية في الدماغ والحبل الشوكي مهمتها التحكم بوظائف تشمل التحرك والتحدث والبلع والتنفس.
بدا عالم الروبوتات الشهير عالمياً مورغان مشلولاً وغير قادر على الحركة، غير أن إيمانه بفكرة الـ “سايبورج” غيرت كثيراً من مصيره، إذ خضع لسلسلة من العمليات المعقدة والمحفوفة بالمخاطر خلال رحلته للعلاج التي تضمنت تطوير مجسم مشابه لما كان عليه وجهه قبل أن يفقد القدرة على التحكم في عضلات الوجه، وجرى تصميم مجسم ذكي يستجيب باستخدام لغة جسد تديرها تقنية الذكاء الاصطناعي، وكذلك تعامل مورغان مع تقنية تتبع العين ليمكن نفسه من التحكم بأجهزة كمبيوتر عدة بمجرد استخدام عينيه، وحقق الإجراء الأخير نجاحاً في استبدال صوته بآخر مصنوع بتقنيات الذكاء الاصطناعي على أمل الاستمرار لعقود محتملة من الحياة.
توفي مورغان في مايو 2022 بعد عدد من العمليات الجراحية التي ساعدته في البقاء على قيد الحياة، وأطلق حملة بعنوان “الحق في الازدهار” تطالب بمزيد من التمويل للرعاية الصحية في بريطانيا وتغيير المبادئ التوجيهية في هذا المجال، لافتاً إلى أن أقل من واحد في المئة من المصابين بداء “العصبون الحركي” يحصلون على تركيبة منقذة للحياة.
وفي كلماته الأخيرة قال مورغان “نحن في حاجة إلى رفع الصوت في هذا المجال وإلى أن يعلو صداه فوق ضجيج عالم الأعمال ومشكلات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فصوت المصابين بمرض العصبون الحركي ظل لفترة طويلة للغاية غير مسموع إلى حد كبير”.
هل تعني التجارب المتقدمة أن الإنسانية على موعد مع أنصاف البشر وأنصاف الآلات؟
الشاهد أنه ربما يكون التساؤل الأكثر حساسية موصولاً بمن ستكون له الغلبة في نهاية تلك المسيرة، أي هل ستنتصر الآلة على بقايا البشر أم سيظل البشر هم أصحاب القيادة والريادة مهما طفا على السطح خلاف ذلك؟
عندما ضربت جائحة “كوفيد-19” العالم، ومع ظهور اللقاحات التي طورتها شركات الأدوية الأميركية، طفا على السطح حديث الشرائح الإلكترونية والتي قيل إن اللقاحات تحويها، وبالطبع وجدت تلك الرؤى استهجاناً كبيراً في الوسط العلمي العالمي لكنها تركت تأثيراً مؤكداً في كثير من المجتمعات التي تؤمن بنظرية المؤامرة.
حديث الشرائح هذا يجد اليوم له صدى كبيراً في عالم الـ “سايبورج”، لا سيما من خلال الإشارة إلى شرائح ذكية يمكن أن تدمج في العقل البشري لتفرز أجيالاً أقرب ما تكون إلى أنصاف البشر الذين يحققون سمواً على الطبيعة البشرية الاعتيادية، ويحاجج أنصار الـ “سايبورج” بأن الأمر لا يتجاوز القدرة البشرية على ابتكار أدوات وتقنيات ذكية جديدة وغير مسبوقة من شأنها أن تحقق التفوق للجنس البشري.
لكن على الجانب الآخر وفيما يشبه رؤى الخيال العلمي يمكن أن تضحي تلك التكنولوجيا الطريق إلى الفناء والاندثار، بخاصة مع عدم القدرة على التنبؤ بالتطورات، وهل ستحقق الآلة عند نقطة معينة كفاءة تفوق الذكاء البشري، أو أن تضحى تلك الخلايا قادرة على التفاعل والانقسام بالضبط كما الخلايا البشرية الاعتيادية.
أحد الذين تصدوا للجواب عن التساؤل المتقدم هو كاتب الأساطير والخيال العلمي وعالم الكيمياء البروفيسور جيمس لوفلوك، ففي كتابه الخاص بالذكاء الاصطناعي يقول إن “العالم سيترك عصر الـ “أنثروبوسين”، أي عصر التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض، عندما يكون للنشاط البشري تأثير مهيمن على الكوكب للدخول في عصر “نوفاسين”، أي عصر الذكاء الفائق، إذ تلعب أنظمة الذكاء الاصطناعي الدور الرئيس”.
حديث لوفلوك مخيف لكثيرين، إذ إنه يرى أن الخطوة المقبلة في الانتقاء الطبيعي ستمكن الـ “سايبورغ” من التكاثر والتطور وحتى التفكير أسرع آلاف المرات من البشر، وذكاؤها سيقدر بذكاء البشر مقارنة بالنباتات.
تغيير شكل الإنسانية
أحد أهم العقول المفكرة التي يتوجب علينا الوقوف أمامها ونحن نتناول شؤون عالم الـ “سايبورج” هو المدير المؤسس لمعهد مستقبل الإنسانية في “جامعة أكسفورد البريطانية” الفيلسوف والعالم السويدي نيكولاس بوستروم”، إذ اشتهر بأبحاثه في الأخطار الوجودية للتقنية والمبدأ الإنساني وعواقبه على نظرتنا للعالم ولدورنا فيه، والذكاء الفائق وما يمكن أن يفضي إليه من مشكلات غير مرتقبة أو مراحل حضارية جديدة.
وبوستروم من الأوائل الذين وضعوا البشرية أمام خصائص مفادها أن ما يعجز كثيرون عن إدراكه اليوم هو أن التقنية لن تكتفي بتغيير محيطنا أو تصرفاتنا وحسب، كما يشهد بذلك عصر الهواتف الذكية الذي صاحبته ظواهر الانعزال عن المجتمع من جهة والانجراف وراء أهواء وموضات جديدة من جهة أخرى، بل سيحين الوقت عاجلاً أم آجلاً لأن تتصرف فينا جسداً وعقلاً، مما سيفتح الباب أمام تغيرات ونتائج لا تخطر على أذهان كثيرين.
ويحدثنا بوستروم في كتاباته عن تقنية الـ “نانو” تكنولوجي، وهي تقنية تصنيع مرتقبة ستجعل من الممكن بناء تراكيب معقدة ثلاثية الأبعاد وفق مواصفات ذرية باستخدام تفاعلات كيماوية موجهة عبر آلات غير بيولوجية.
وفي التصنيع الجزئي ستذهب كل ذرة إلى مكان مختار للترابط مع ذرات أخرى بطريقة دقيقة محددة، وتتعهد تقنية الـ “نانو” بإعطائنا تحكماً كاملاً في بنية المادة.
ويتوقف بوستروم طويلاً عند العتبة الأولى للـ “سايبورج” من خلال ركيزة ستخلق عالماً جديداً، تلك الموصولة بعالم الذكاء الفائق أو العقل الفائض الذكاء والذي يطلق عليه أحياناً الذكاء الخارق، وهو نفسه الذي يملك القدرة على التفوق بشكل جذري على أفضل العقول البشرية في كل مجالات الحياة، بما في ذلك الإبداع العلمي والحكمة العامة والمهارات الاجتماعية.
يكاد النقاش المستمر حول فكرة الـ”سايبورج” أن يقودنا إلى القول بنهاية عصر الإنسان العادي والانتقال إلى حقبة ما بعد البشر الكامل، غير أن الحيرة تلف المشهد وما من أحد قادر على القطع بما إذا كان الأمر مجرد تطور إلى الأمام أم ارتداد إلى الخلف؟.
وإشكال حديث الـ “سايبورج” هو أنها تفتح النقاش على ما يسمى عالم ما بعد الجندرية أو الجنوسة (Post genderism)، وهي حركة اجتماعية وسياسية وثقافية تؤمن بالقضاء الطوعي على الجندر في الجنس البشري من خلال تطبيق التكنولوجيا الحيوية المتقدمة والتقنيات الإنجابية المساعدة، ويقول بعضهم إننا في معظمنا نمضي ومن دون وعي في طريق الـ “سايبورج” من خلال تعلقنا وتواصلنا بالتقنيات الرقمية التي تتطور بشكل غير متوقع كل يوم، مما يعني أن الإنسان يكاد يسلم زمام قيادته للآلات المرقمنة ويجعلها تقوده في مسيرة الحياة من وقت صحوه إلى منامه ومن مولده إلى وفاته، فهل سيعلن زمن الـ “سايبورج” وسيادة الآلات عما قريب وينتهي عصر ريادة البشر؟