جريمة ذبح الهوية!
حياة يحيى
أصبح تغيُّر السلوك الجمعي للمجتمع المصرى من القضايا التي تفرض نفسها على كل مُتابع لتطور المجتمع المصري، في آخر عقدين، أو ثلاثة، وتدفعنا لطرح تساؤلات عديدة حولها: هل بات المجتمع المصري طاردًا للأفكار، أم يتقبّل التعددية الفكرية ؟ وهل لدينا المساحة المقبولة لاستيعاب كل من يحاول كسر تلك القوالب الاجتماعية المتعارف عليها ؟ وهل أفراد هذا المجتمع قادرين على مواجة المجتمع باختلافهم، أم يكبلهم خوف من مواجهة المجتمع، والاقتراب من رواسخه، حتى وان كانت خاطئة ؟
فضيلة الشيخ أحمد التركي يرى أن الخوف هو أكبر عدو للإنسان، وبالفعل؛ الخوف من الناس، وكلامهم، ونظراتهم هو أكبر إشكالية، لذلك فالذي يخاف من رأي الناس هو مسكين؛ لأنه وضع نفسه وضعية العجين الذي يسهُل أن يشكِّله أى شخص بمجرد الضغط عليه ..!
ولو أردنا أن نتحدث بمنظور الإسلام فى هذا الوضع؛ فالإسلام يقول للإنسان: لاتخف؛ لأنه دين سماوي جاء بالأمان؛ ليضمن للإنسان حريته في اتخاذ قراره في كل أمور حياته، وحريته كذلك في تفكيره، ومعاملاته؛ بدليل قوله تعالى: (من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)؛ لذلك فعلى الإنسان ألا يخشى إلا الله.
وعندما حاول أهل قريش ابتزاز رسول الله، وأصحابه، ماذا قال الله ؟ لقد قال تعالى:
﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾؛ لذا يجب ألا نتجاوب مع ضغط الناس علينا، وتخويفنا.
فالزواج مثلا اختيار وليس واجبًا، وهناك أنبياء لم يتزوجوا، وهناك من يتزوج، ولا يرغب بالإنجاب.. فله الحق فى ذلك، ولا لوم عليه، فالإنسان حر فى اختياراته، وقراراته، والدين ليس حجر عثرة لإعاقته، لكن مايعيق حرية الإنسان هو الأعراف، والعادات، والتقاليد الاجتماعية؛ وهى – للأسف – ضاغطة، لأنها أقوى سلطة معنوية موجودة فى المجتمع؛ أقوى من سلطة الدين نفسه، بل القانون أيضًا !!
مثلًا؛ عبارات تقال للمُطلقة، أو الأرملة: ماينفعش تتجوزي تاني أصل الناس هيقولوا كذا وكذا !ماينفعش تلبسى على مزاجك؛ علشان الناس هتتكلم !! إلى آخر تلك النماذج؛ فتلك مشكلة كبيرة، على الرُّغم من أن صحابيات كثيرات تزوجنَ مرات عديدة من صحابة، وغير صحابة، وحتى بعض زوجات النبى كانوا ثيبات، وبعضن كان لهن أبناء من زيجات أخرى.
إذن.. علينا جميعًا أن نواجه حالة الخوف المجتمعي؛ كلٌّ فى مكانه، وإلا فالأجيال الجديدة سوف تدخل أيضًا في بوتقة العادات، والتقاليد.. يعني؛ “لازم نعلمهم يقولوا لأ”.
علينا إعادة تشكيل وعي الناس؛ لأنه، حتى الناس المعنيّة بتشكيل الوعي – للأسف – تفعله من باب البرستيج، لا باب العمل، والاجتهاد الصادق؛ ينظمون مؤتمرات فى شيراتون القاهرة؛ لتوعية البسطاء فى الصعيد !!!
نريد عملًا على أرض الواقع، وتنفيذ عملي للخُطب على الأرض، ولابد أن نفهم أن الجيل الجديد ضد القوالب.
لو ذهبنا للقطاعات المسؤولة عن الوعي، وتوجيه المواطن، سنجدها في صراع، لا تعاون، وتكاتف، بل إن كلٌّ منها يؤثر على الآخر بالسلب؛ وهذا يدعونا للتساؤل: هل قوّض الإعلام دور الأزهر التنويرى؛ بإبراز نماذج شوّهت العقيدة، على حساب نماذج مستنيرة فكريًّا ؟!
هذه الإشكالية قديمة قِدم التاريخ، ولو تتبعنا الخط التاريخي؛ سنجد، على مر العصور؛ أن المتنورين، ومَنْ يقودون الوعى؛ بسببها باتوا قِلّة، لذا فمن غير المستغرب، والطبيعي أن نجد عدد مَنْ يفهمون الحقائق، ويملكون الجرأة، والشجاعة لطرحها، وينورون الناس، 2% ، أو أقل !
ومسألة التفكير فى اتجاه واحد قديمة، قبل الإعلام، والأزهر، ونحن كأمة لنا تاريخ طويل من الرأي الواحد، وأحادية التفكير؛ لقد جمدنا الإجابات، ووضعناها بقوالب؛ فتجد الآباء لايسمحون لأبنائهم بفرصة للتعبير بحرية عن أرائهم، والأستاذ الجامعي لايقبل أن يخالفه تلميذه !! فهو بذلك يريد صنع نسخ مكررة منه فى التفكير ! وبدوره التلميذ يقوم هو أيضًا بصناعة نسخ مكررة، وهكذا..! حتى تحولنا جميعًا لنسخ من بعضنا البعض؛ إذن فالموضوع مُتجذّر، ومتأصّل، وهو فى رأيى جريمة منظمة نتوارثها.
الأمر يحتاج إلى علاج عاجل، وجذري، يبدأ – في رأيي – بتعليم الأطفال التفكير النقدي؛ أن نعلمهم كلمة “لماذا ؟”..
“لماذا ؟” ستحُل كل شيء؛ لأن الأسئلة تخلِق عقلًا مُبدِعًا له إرادة.
حسنًا.. وماذا لو كان السؤال فى العقيدة ؟ وهل يحق لأي شخص البحث فى الأديان، وقراءة عقائد ؟
الجواب؛ أن القرآن علمنا ألا يكون هناك سقف للسؤال، فالصحابة سألوا الرسول عن كل شيء، وأي شيء، ولم يتركوا شيئًا؛ (فيسألونك) تكررت كثيرًا فى القرآن الكريم، من أول سورة البقرة.. فهكذا ترك الله سبحانه وتعالى السقف مفتوحًا للاجتهاد، والعلم، والتفكير.
نذهب للإعلام؛ بصفته إحدى الجهات المسؤولة في الدولة عن تشكيل وعي، وثقافة الناس، ونسأل: هل أسهم الإعلام فى خلق حالة من التوحد الفكري عند المواطن، وصناعة أنماط، وقوالب محددة ؟
بحثت عن إجابة سؤالي لدى المتخصصين؛ فوجدت أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية – جامعة القاهرة الدكتورة سامية خضر ترى أن التدخل فى شؤون الآخر، الذي غالبًا لا نعرفه حق المعرفة، بشكل غير مباشر، من خلال النميمة، زاد كثيرًا، في السنوات الأخيرة، على الرُّغم من أننا قد نسكن في عمارة واحدة، وأحيانًا دور واحد، ومرجع ذلك أننا بتنا نفتقد المثل الأعلى، سواء في الحياة، أو على شاشات التلفاز؛ أي الإعلام، وهذا يعد تقصيرًا إعلاميًّا؛ بصفته مؤسسة أساسية في إرشاد، وتوعية، وتوجيه الناس، والسبب – ببساطة – لأن إعلامنا – للأسف – أصبح مجرد مضخة إعلانات، وحتى مواده الدرامية تكون فارغة من أي محتوى ثقافي، وفكري.
وبحسب د. خضر؛ هذا يعد كارثة، لأننا، نحن المصريين، رواد الإعلام في المنطقة، منذ قديم الأزل، وكان لدينا نماذج رائدة، أما الآن؛ فجميع قنواتنا الإعلامية المرئية ليس فيه مايعظم القيم، والثقافة المصرية، بل تحوي قيمًا مستوردة، وحينما نعترض؛ نواجه بجملة: (مش عاجبك ! إقفل التلفزيون، أو غيّر القناة) ! حسنًا سأفعل ذلك، ولكن؛ ماذا عن ملايين البسطاء المُعدمين، بلا تعليم، أو وعي ؟! هل يملكون الإرادة الواعية؛ لاختيار مايناسبهم من مشاهدة، أم يستسلمون لتلك البرامج؛ لمجرد أنها تُقدِّم محتواها التافه؛ بشكل يجذب الانتباه ؟! انتهى كلام د. خضر.
إنّ لدينا 60% من الشعب المصري من الشباب، و25% أُمّيين؛ فلا يعقل أن نتركهم فى الهواء الطلق، دون أن نروي عقولهم بالفكر، ونشحذ هممهم بقيمة الهوية المصرية، ونتركهم فى مهب قنوات أجنبية، ونماذج لأسماء هابطة فنيًّا !!
إننا بذلك نرتكب جريمة ذبح الهوية، والفكر الراقي، مقابل فكر السيطرة، والتوحش، ثم نتساءل:
لماذا تغيّر المجتمع المصرى ؟!
كان الإعلام يُبجِّل كوكب الشرق أم كلثوم بكلمة “الست”؛ وينادون عليها إعجابًا بفنها، وإبداعها: “كمان يا ست”؛ فكانت كلمة “ست” فخر، تعكس نظرة فخر وتعظيم للمرأة، لا انتقاص منها، كما يحدث الآن !!
وهذا يقودنا لسؤال آخر يطرح نفسه: هل الإعلام حوّل القضايا العامة لحالة جدلية، وصراع أطراف، بدلًا من خلق حالة نقاش؛ تدفع المشاهد إلى التفكير، والاختيار ؟
أرى الإجابة بنعم؛ والدليل من الواقع؛ فلدينا نماذج من برامج، مسمياتها تخلق كارثة فكرية؛ مثل (يا أنا يا إنتِ)، و(زوجة مفروسة)، وغيرهما من المسميات التى تحمل كارثة فكرية؛ تدعو للتنمر؛ وكأنها حرب؛ إمّا أنا، أو أنتَ.. لامكان لأنا، وأنت معًا !!
والنتيجة الأخيرة تدفعنا لسؤال جديد:
هل انسحاب إعلام الدولة من المشهد الإعلامي عامل مؤثر في نوعية الرسالة الموجهة للمواطن ؟
بالطبع، بل إنّ الانسحاب، في حد ذاته كارثة؛ فأين وزارة الاعلام الآن ؟!.. لقد كانت لدينا وزارة تسمى بـ”الإعلام والإرشاد”؛ تُقدّم لنا إنتاجًا متميزًا، يعمل على إثارة مَلَكة التفكير لدى الناس، وتوعيتهم، دون أن يخدش، أو يجرح البيوت المصرية، وبرامج فنية تثقيفية كانت تنقل أرقى الفنون للبسطاء، دون عناء، فترتفع بذوقهم، وما إن حرمنا الناس من تلك التغذية الراقية للنفس، حتى توحشت أرواحهم، وانعكس هذا – بالطبع – على سلوكياتهم؛ التي لم تعُد تجد مَنْ، ومَا يهذبها!
وحتى الدعايا التي تُصنع للتوعية أصبحت كارثية؛ فكيف أتوجه فى حملة لمنع التحرش بمثل هذا الكلام للرجل: (إعتبرها أختك وماتتحرش بيها) !!
هل يُعقل هذا الخطاب المنكسر، الذي يصوِّر الفتاة ككائن ضعيف، قليل الحيلة، نستجدي، ونتسول من المتحرش أن يرحمها ؟!!!
هل هذا خطاب يليق بالمرأة المصرية، التي خرجت كل تلك الأجيال، وطالما كانت بوتقة تخرّج منها العظماء ؟!
إنّ الإعلام المرئي قادر على شحن الجماهير يمينًا، أو يسارًا، ومن هنا تأتي خطورة دوره، وعدم قيامه بهذا الدوري المحوري شديد الأهمية، اعتبره مشكلة إدارة داخل الدولة؛ فلدينا وزارة ثقافة، وهيئة إعلام، لكن لا تشغلهما تلك القضية، وتركا الساحة لسيطرة إعلام الأفراد !!
إذن.. فمَنْ سيقوم بذلك الدور، الذي تركته الدولة؛ وهو إدارة فكر المواطن ؟! وكيف لم يستفد الإعلام المصري جيدًا من نماذجنا الإيجابية في الداخل، بل الخارج أيضًا، مثل نجمنا الشاب في كرة القدم المُحترف ببريطانيا؛ محمد صلاح، وغيره من المتفوقين، والمُبدعين الشباب في كل المجالات، ويحملون فكرًا راقيًا، وسلوكيات مهذبة، وقبولًا؛ في التأثير على فكر، وسلوك الناس، وتوجيهه للولاء، والانتماء، والاحترام المتبادل بين الجنسين.
إذن.. نحن الآن أمام ظاهرة تستحق، ليس فقط التأمُّل، والدراسة، بل التدخُّل الفوري، والحازم من كل المؤسسات المعنيّة فى الدولة؛ سواء الدينية، أو الثقافية، أو الإعلامية، أو التربوية، وتقديم نماذج، وأنماط إيجابية، واحترام جميع الحريات، وعلينا أن نبدأ فورًا؛ إن أردنا جيلًا قادرًا على الحياة، جريئًا، قادرًا على اتخاذ قراراه؛ فى اختيار شكل حياتها التي يعيشها؛ لنعود مجتمعًا سليمًا، قويًّا، حُرًّا.. مجتمعًا قادرًا على تكسير أصنام.. صنعها الخوف !