السيسي يضع مصر في مكانتها الحقيقية
كتب: عبدالمنعم إبراهيم
تدقيق لُغوي: ياسر فتحي
في مُنتصف القرن الماضي، كانت مصر هي القوة الأبرز والأهم في دوائرها السياسية والجيوسياسية سواء داخل إقليم الشرق الأوسط عبر تيار القومية العربية الذي أسَّسهُ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، أو قارة إفريقيا، وذلك بدعم حركات التحرر مِن الاستعمار أو خطط بناءٍ للتنمية، دوليًا عن طريق عددٍ مِن المنظمات مثل منظمة دول عدم الانحياز.
وقد أخذ هذا الدور في التراجع عقب هزيمة مصر في حرب يونيو عام 1967، ثم حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، وصولاً إلى ثورة يناير وما أعقبها مِن أزماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأمنيةٍ واجتماعية داخلية، جعلت مصر وفق آراء الكثيرين تابعًا لبعض القُوى الإقليمية، لاسيما الخليجية. إلا أنه وخلال السنوات القليلة الماضية عادت مصر لتلعب أدوارًا إقليميةً ودوليةً عديدة، إلى أنْ اعتلى المشير عبدالفتاح السيسي سدة الحكم وعمل على تأسيس مصر الحديثة وبدء استعادة الدور المصري عن طريق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وبناء جيشٍ قويٍ وتسليحه بأحدث أنظمة التسليح العالمية، وكان للقاهرةِ حضورٌ قويٌ في أقوى الملفات المطروحة على الساحة الدولية ومِن أهمها.
القضية الفلسطينية
في نهاية شهر مايو 2021، ظهر اللواء عباس كامل مدير جهاز المخابرات العامة وسط قطاع غزة برفقة يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بالقطاع وذلك بعد انتهاء جولة الحرب بين الفصائل الفلسطينية بقيادة حركة حماس وإسرائيل بعد وقف إطلاق النار الذي دعَت إليه ورعته مصر ، حيث مثلت صورة مدير المخابرات برفقة السنوار علامةً على عودة العلاقات بين الحركة والدولة التي كانت قد شهدت توترًا شديدًا بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع الراحل محمد مرسي، مثَّلَ هذا إشارةً لا تُخطئها عينٌ على عودة النفوذ المصري للقطاع الذي تلقى وعدًا مِن الرئيس السيسي بمنحةٍ تُقدَّر بنصف مليار دولار للمساعدة في جهود إعادة الإعمار.
وقال محللون، أنَّ مشهد مدير المخابرات المصرية وسط القطاع هو نتيجةُ جهودٍ استخباراتية وسياسية وأمنية كثيفة تمتد منذ عام 2015، حينما بدأ التوتر بين الدولة المصرية وحركة حماس في الخفوت.
ومِنَ الجدير بالذكر أنه تم الإفراج عن يحيى السنوار عام 2011 بجهود المخابرات المصرية عندما كان أسيرًا بالسجون الإسرائيلية.
الملف الليبي
كانت الحدود الغربية المصرية على صفيحٍ ساخنٍ بعد سقوط نظام القذافي، وقد تأزَّمَ الوضع الليبي أكثر بإرسال تركيا لِمُرتزقةٍ وقواتٍ ومعداتٍ عسكريةٍ لمساندة حكومة طرابلس غربًا والمدعومة مِنَ النظام القطري والتركي لمواجهة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر حليف مصر والإمارات، وهو ما أنذَرَ بوقوع صِدامٍ عسكري مباشرٍ بين تركيا ومصر على أرض ليبيا، حتى أعلن الرئيس السيسي أنَّ ” سِرت و الجفرة ” خَطٌ أحمر وإذا تم اجتيازه فإنَّ مصر ستتدخل عسكريًا، إلا أنَّ ذلك لَمْ يحدث بعد دخول وساطاتٍ دوليةٍ كُبرى أدَّت إلى تغيير المشهد بشكلٍ كامل وصعود مجلس رئاسي وحكومةٍ جديدةٍ في طرابلس على مقربة كبيرة مِن مصر، و التي أظهرت ذلك بوضوح خلال زيارة مدير المخابرات اللواء عباس كامل، الذي حرص على التجول في شوارع طرابلس لإظهار تغيُّر المعادلة الجديدة.
الملف العراقي
خلال شهر يونيو مِنَ العام الحالي شهدت العاصمة العراقية بغداد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكانت هذه الزيارة هي الأولى مِن نوعها منذ قرابة ثلاثين عامًا، لتُشير إلى عودة النفوذ والحضور المصري على الساحة العراقية بعد سنواتٍ مِن التوتر والغياب، وهي الزيارة التي تعتبر حلقة هامة في المشروع، الحلف الثلاثي الطَّموح بين مصر والعراق والأردن والمسمى ب”الشام الجديد” وفي أغسطس 2020 أعلن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن المشروع قائلاً في حوارٍ لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية ” إنَّ مشروع الشام الجديد وفق النسخة الأوروبية سيتم طرحه على قادة مصر والأردن، موضحًا أنَّ المشروع سيُتيح تدفقاتٍ لرأس المال والتكنولوجيا بين البلدان الثلاثة على نحوٍ أكثر حرية ”
وبدء التحالف بشراكة بين العراق الغني بالنفط والذي سيمد الأردن ومصر باحتياجاتهم عبر أنبوب نفط مِن البصرة إلى العقبة ومِن ثم إلى مصر حيث سيتم تكرير كميات أخرى ويُعاد تصدريها مِن مصر إلى أوروبا، وفي المقابل فإنَّ مصر ستمد العراق بالكهرباء عبر توسعة مشاريع الربط القائمة حاليًا بين القاهرة وعَمَّان، بالإضافة إلى تسهيلاتٍ اقتصادية وتجارية تفتح الآفاق إلى استثماراتٍ نفطية وغير نفطية تستوعب العمالة المصرية الضخمة.
تَبِعَ ذلك زيارة لرئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، إلى بغداد وقع خلالها اتفاقية حملت عنوان ” النفط مقابل الإعمار ” والتي تتضمن مساهمة الشركات المصرية وعلى رأسها القطاع العسكري (الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ووزارة الإنتاج الحربي، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية) بجانب شركات عامة وخاصة في مجالات النقل والموارد المائية والصحة والبيئة والعدل والاستثمار والإسكان والإعمار والصناعة والتجارة والمالية، في مقابل توريد بغداد لكمياتِ نفط ضخمة لمصر لما تمتلكه مِن قدراتِ تكريرٍ هائلة بتكريره وإعادة تصديره، كما امتد التعاون إلى الجانب العسكري حيث تقوم القاهرة بتدريب قوات الجيش العراقي، وهو ما سيشهد توسعًا بعد انسحاب القوات الأجنبية مِن بغداد والمقرر الانتهاء منه عام 2022
لبنان
في يوليو 2021، أعلن السفير المصري في بيروت، ياسر علوي، عن فوز شركة المقاولين العرب بمشروع تطوير ميناء طرابلس وهو أهم مناطق تمركز النفوذ التركي في لبنان، وهي المناسبة التي استغلها علوي للتأكيد على الحضور المصري المكثف مؤخرًا هناك قائلاً ” مصر اليوم في طرابلس وغدًا في صيدا وصور وعكار والبقاع وكل لبنان ”
وشهدت مصر زيارة قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، الذي استُقبِلَ استقبالاً رسميًا مِن رئيس الجمهورية وقادة الجيش والمخابرات الذين حرصوا خلال الأشهر التي سبقت الزيارة على إرسال عدة سفن عسكرية تحمل مساعداتٍ للجيش اللبناني، بجانب مساعداتٍ أخرى ضخمة حملها الجسر الجوي المصري بعد مأساة انفجار مرفأ بيروت.
القارة الأفريقية
أما أفريقيا فقد بدا وأنه لا بديل عن عودة الدور والنفوذ المصري بعد أنْ أصبح وجودها مهددًا بفعل سد النهضة الذي أقامته أثيوبيا على نهر النيل، شريان الحياة لمصر، وخلال فترة قليلة قام الجيش المصري بتنفيذ عدد مِن التدريبات العسكرية المشتركة مع السودان، وتوقيع اتفاقياتٍ عسكرية مع كُلٍ مِن كينيا، ورواندا، وبوروندي، وأوغندا، وجيبوتي التي شهدت زيارة الرئيس السيسي لها كأول زيارة مِن نوعها في تاريخ الدولتين.
قال الدكتور “سيد غنيم” رئيس مركز دراسات الأمن العالمي والدفاع IGSDA، أنَّ الزيارات قد اختفت بشكل كبير ليس فقط مِن بعد ثورة يناير وإنما خلال الثلاثين وربما الأربعين عامًا الماضية، سواءً بدعم حركات التحرر في أفريقيا أو عن طريق الأزهر والكنيسة وإرسال البعثات، كما كانت مصر ترسل مستشارين عسكريين إلى الدول مثلما كان الوضع مع الفريق سعد الدين الشاذلي والمشير أحمد إسماعيل، بجانب التبادل التجاري، ودعم الحكومات الموالية لمصر، وهو ما توقف تمامًا وخاصة في شرق أفريقيا ودول حوض النيل التي انعدم نفوذها داخلها تقريبًا، وكان تركيز مصر أفريقيًا مُنصَبًا على ثلاث جبهات هي حوض النيل والدول المطلة على البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ودول الساحل والصحراء في غرب أفريقيا.
وغابَ هذا الدور المصري الإقليمي لأسبابٍ عِدة منها في اليمن، فهناك تاريخ مِن الخلاف المصري السعودي، وكذلك في سوريا حيث كان هناك دور لدول الخليج في دعم العناصر السلفية الجهادية ضد بشار الأسد، أو الدعم الإسرائيلي لبعض هذه التنظيمات وهو ما يتعارض مع رؤية مصر الاستراتيجية الممتدة التي تعادي أيَّ قوةٍ دينية سواءً كانت سلفيةً أو جهاديةً أو مِن الإخوان المسلمين، وكذلك في لبنان الذي هو امتدادٌ رئيسيٌ لأزمات الشام، ووجود حزب الله كأقوى الأطراف وتابع إيران، حيث لا تريد مصر أنْ تتورط في هذه الأزمات خاصة خلال فترة حكم الرئيس السيسي الأولى والتي كان فيها تركيزٌ شديد على تدعيم العلاقات الخليجية للخروج بمصر مِن الأزمات المتعددة التي اشتدت عقب ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013.
وعادت مصر لتمارس دورًا إقليميًا مؤخرًا سعيًا للحصول على نصيبٍ مِن النفوذ الإقليمي، وهو ما أعتقد أنه كان مخططًا له مِن بعد ثورة يونيو عام 2013، وتولِّي السيسي منصب رئيس الجمهورية قادمًا مِن مقعد وزير الدفاع، وذلك عبر عدد مِن الاتفاقيات العسكرية مع بعض دول حوض النيل والقرن الأفريقي، وإظهار دور جديد في الساحل والصحراء والذي بدأ الآن حيث تقيم مصر مركزًا للتدريب يركز على هذه المنطقة، ويأتي عودة دورها النسبي في العراق والأردن كإعادةٍ لفتح ملف مجلس التعاون العربي الذي كان هناك بوادر لإنشائه بين الدول الثلاث ومعهم اليمن كنظيرٍ لمجلس التعاون الخليجي عام 89، لكنه لَمْ يُكلَّل بالنجاح بسبب غزو العراق للكويت، والآن يعود الأمر مِن جديد لمصالح الدول الثلاث الاقتصادية والأمنية والسياسية، ويتوقف نجاح هذا التحالف على شكل التعاون واستقراره ونجاحه في اكتساب ثقة القوىٰ الثلاث المهتمة بالمنطقة: الغرب وروسيا والصين.
وعلى الرغم مِن عودة هذا الدور بمظهر رَدِّ الفعل إلا أنه يأتي كاستراتيجيةٍ ضرورية بأساليب جديدة خاصة في أفريقيا، وسيعمل على تقويته التوسع في التعاون العسكري مِن خلال التدريبات والتواجد مثلما حدث في السودان، وذلك لمصلحة استراتيجية لضمان منطقة حيوية مستحقة وضرورية لمصر سواءً في العمق الاستراتيجي الجنوبي والشرقي، لحفظ الحقوق المائية في نهر النيل وحفظ الأمن القومي في البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس، ومواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة في غرب أفريقيا وكسب أصوات ونفوذ داخل أفريقيا لمواجهة النفوذ الأثيوبي حيث يقع مقر الاتحاد الأفريقي.
كل هذه الملفات جعلت مصر تستعيد دورها الإقليمي والدولي وجعلت منها قوةً لا يُستهان بها بفضل القياده الحكيمة للرئيس عبدالفتاح السيسي.