الشفرة النوبية .. كَلِمَةُ السِّر في حرب أكتوبر
كتبَ: مدحت سليمان
تدقيق لُغوي: ياسر فتحي
في مثل هذه الأيام قبل 47 عامًا بالتمام والكمال كانت أيامًا غير مسبوقة، بَل كانت سِمَةً مِن سِمات العمل في كواليس الجيوش، لذلك فإنَّ إثارةَ كلمتي “اضرب” و”الساعة الثانية” اللتين شكلتا عصب حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، كانتا مِن النوع الفريد الذي قلما يتكرر في كواليس الجيوش.
فكرة غريبة
الجيش المصري في أشهُرِ ما قبل حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 كان يَدرُس الإمكانات والبدائل المتاحة لإبلاغ الأوامر والتعليمات، وتبادل المعلومات والإخباريات بين القيادات والضباط. ولأن الحرب خدعة؛ فإن الشفرات المعروفة تظل عُرضةً للاختراق وفَكِّ الأكواد، لأن أول ما يفكر فيه العدو هو التلصص على رسائل الخصم والتعرف إلى ما يدور في دهاليز صُنَّاع القرار، لهذا التفت قادة الجيش المصري إلى تلك الفكرة العجيبة التي طرحها أحد الجنود، لتبدو وكأنها شِبه مستحيلة، بسبب إفراطها في البساطة، وهو سِرُّ غَرابتها في آنٍ واحد.
بَطَلُ الفكرة الغريبة هو الجندي المصري النوبي أحمد إدريس، الذي حصل على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية الأزهرية عام 1952، بعدما تَرَكَ قريته “توماس وعافية” بمركز إسنا في محافظة الأقصر جنوب مصر ليحصل على قسط مِن التعليم في القاهرة، عاش الصغير مع أخيه الأكبر الذي كان مقيمًا في منطقة “حدائق القبة” بالقاهرة، حتى حصوله على شهادته الابتدائية، وبدلاً مِن أنْ يُكمِلَ تعليمه، كانت ثورة 1952 قد تركت آثارها الاجتماعية والمعنوية على الجميع بِمَن فيهم الفتى الصغير. أصرَّ إدريس على الالتحاق بالكيان، الذي ظهر منه الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو (تموز) عام 1952، وهو ما تحقق بالفعل بتطوعه في الجيش وانضمامه بعد فترة التدريب لقوات حرس الحدود.
أصل الحكاية
تركيبة الجندي الشاب إدريس كانت محملة بآمال ثورة يوليو (تموز) العريضة، وتفاصيل ما جرى في عام 1948، وبحماسٍ وأملٍ تجاه المستقبل، وقادَته الصدفة إلى مناقشةٍ بين الضباط حول معضلة الوصول إلى شفرة للتواصل يصعب فكها مِن قِبَل العدو، إضافةً إلى اجتماع عسكري قبل الحرب بعامين عن معضلة الشفرة!
يحكي “الحاج أحمد”، البالغ مِن العمر 83 عامًا، في حديث طويل عن المعضلة التي توصَّلَ إلى حَلِّها بكلمتين مصحوبتين بضحكة بريئة، قالهما لقائدهِ: “اللغة النوبية”. “قلت له اللغة النوبية هي الحل، تكون هي لغة الإرسال، يحاول العدو فك شفرتها، يجد نفسه أمام لغةٍ بلا أبجدية موثقة”. ويحكي كيف أنَّ قائده أبلغ الفكرة لقادته الذين قالوا: “هاتوا الصول ده”.
وشرح الجندي أحمد إدريس الفكرة أمام القادة، الذين أبلغوها بدورهم إلى الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
يقول إدريس أنه عرف أنَّ السادات أمرَ بالتكتم الفوري على الفكرة، وعدم التفوه بكلمة عنها وإلا تعرض الجميع للعقاب الشديد، مرت ساعاتٌ قليلة قبل أنْ يجد الجندي الشاب نفسه مقيدًا بـ “كلبشات حديدية” متوجهًا مع عددٍ محدودٍ مِن الضباط إلى مكانٍ ما لَم يتم الإفصاح عنه، في جَوٍ يحيطه الصمت القاتل.
يقول: “كنا في أبو صوير بالإسماعيلية، ووقتها لَم يكن يمر يوم مِن دون أنْ يُبلِغَ الأهالي عن شخص هنا أو هناك بأنه جاسوس، والقيود الحديدية أصابتني بصدمة وقلق وخوف. الشيء الوحيد الذي فكرت فيه هو أنْ يكون أحدهم قد اتهمني بهذه التهمة البشعة. بعد ساعات قليلة وجدت نفسي بالقرب مِن قصر الاتحادية في مصر الجديدة، ومنه إلى بيت الرئيس السادات، هنا أخبرت نفسي أنني حتمًا انتهيت، قادوني إلى غرفة مكتب الرئيس الراحل، وأخبروني أنه في اجتماعٍ مع قادة الجيش، وأنه سيأتي ليقابلني ما أنْ ينتهي مِن الاجتماع، تحول الشعور بأنني ميت إلى يقينٍ بأنَّ عشماوي (الاسم الذي يطلقه المصريون على الشخص المُكلَّف بتنفيذ أحكام الإعدام) سيدق الباب في أي لحظة لينفذ حكم الإعدام فيّ. مرت ساعة ونصف، وأنا جالس على مقعد، لكنها مرت عليَّ كدهرٍ كامل، ثم دخل الرئيس الراحل حاملاً عصاهُ تحت إبطه وغليونه في اليد الأخرى، فانتفضت واقفًا وأديت التحية العسكرية، فما كان منه إلا أنْ ربت على كتفي وقال لي: أقعد يا بني! فتسلل إليَّ شعور خافت بالاطمئنان”
- لحظات مِن الخوف والقلق
شرح إدريس فكرته، وما أنْ انتهى حتى غرق الرئيس الراحل السادات في موجة ضحك هستيرية أعادت الرعب مجددًا إلى قلب الجندي الشاب الذي انتفض واقفًا مجددًا وسأل الرئيس: أنا قلت حاجة وحشة يا ريس؟ فرد الرئيس: ” لا! أضحك لسببٍ في نفس يعقوب”.
أسفرت نفس يعقوب ولحظات الضحك الهستيري عن مفاجأة كبرى، وفي خلال أيام معدودة، تم جمع 344 جنديًا مصريًا نوبيًا على درايةٍ تامةٍ باللغة النوبية، وأصبحت كلمة السر في شفرة الحرب وما قبلها وما بعدها اللغة غير الموثقة كتابة والمنقولة مِن جيلٍ إلى جيل شفهيًا، وتم اعتمادها سرًا شفرةً للجيش المصري في حربه التي كان يجري التخطيط لها آنذاك.
الفكرة غريبة جدًا، فلم يحدث مِن قَبل أنْ لجأ جيشٌ نظامي له عتاده وعدته وأنظمة شفراته المعقدة والمتطورة، إلى لغة اعتمدت عبر مئات السنين على النقل والتواتر الشفهيين، بمعنىً آخر لا توجد سجلات لها تمكن أحدهم مِن اللجوء إليها، ودراستها وفهم أبجديتها وترجمتها، بمعنى آخر لا توجد مرجعية للغة يمكن الاستناد إليها لفهم الرسائل التي يتم تبادلها باستخدام كلماتها وعباراتها.
يتحدث أحمد إدريس عن فكرته بثقة بالغة ويقين بأنَّ شفرة اللغة النوبية أسهمت بقدر كبير في صناعة النصر فيقول: “ثلاثة أشياء صنعت النصر إضافة إلى إرادة الله: دهاء وحكمة الرئيس السادات في خطة الحرب والتمويه الذي سبقها، وفكرة خراطيم الماء التي أسقطت خط بارليف التي اقترحها الراحل اللواء مهندس باقي زكي يوسف، وفكرتي باستخدام اللغة النوبية شفرة لرسائل الجيش وتعليماته”.
وسام النجمة العسكرية
رسائل الجيش وتعليماته باللغة النوبية التي أسهمت في صناعة نصر أكتوبر لصاحبها الجندي أحمد إدريس أحرزت له “وسام النجمة العسكرية” الذي قلده إياه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في احتفالات النصر عام 2017.
وفاة صاحب كلمة السر
وقد توفى اليوم الصول أحمد إدريس صاحب الشفرة النوبية المستخدمة في حرب أكتوبر، الثلاثاء، عن عمر ناهَزَ 84 عامًا بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، وتم تشييع الجنازة اليوم ٢١ مِن سبتمبر في مقابر الأسرة في كينج ماريوت بالإسكندرية.