fbpx
تقاريرشؤون عسكرية

الردع بين القوى الصلبة والناعمة

كتبَ: محمود شرف الدين
الباحث بقسم الأبحاث العسكرية بالمجموعة 73 مؤرخين
تدقيق لُغوي: ياسر فتحي

لطالما سمعنا مرارًا وتكرارًا مصطلح (الردع – سلاح الردع – قوات الردع) لذلك ارتبط دائمًا مفهوم الردع معنا بالقوة العسكرية أو استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف معينة عجزت عنها أدوات السياسة الأخرى ولِمَ لا فَكِبار الاستراتيجيين العسكريين مثل الجنرال الفرنسى (أندريه بوفر) عرَّفَ الردع على أنه (منعُ دولةٍ معينةٍ مِن اتخاذ قرارٍ باستخدام أسلحتها أو بصورة أعَم منعها مِن العمل أو الرد إزاء موقفٍ معين باتخاذ مجموعةٍ مِن التدابير والإجراءات التي تشكل تهديدًا كافيًا حيالها والنتيجة التي يراد الحصول عليها هي النتيجة النفسية )
إذًا فهناك نقطتان في غاية الأهمية ذكرهما الجنرال بوفر..

الأولى:
أنَّ الردع هو ردعٌ عسكري مقابل خطرٍ عسكري

الثانية:
أنَّ الردع هو عملية نفسية تستهدف رأس النظام أو عقل القيادة العسكرية وهو يؤكد مقولة (إذا ملكت العقل ملكت الجسم) إذْ أنَّ الردع في الأساس هو عملية نفسية تستهدف صُناع القرار السياسي أو العسكري لإجبارهم على اتخاذ قرارات في صالح الدولة الرادعة.
وهناك تعريفٌ آخر لأبرز الكُتاب الاستراتيجيين الأمريكيين في نظرية الردع وهما (بول هاث و بروس) يُعَرِّفون فيه الردع على أنه (محاولةٌ مِن صانعي القرار في دولةٍ ما لإجبار صانعي القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب ومصالح الدولة الأولى) وهنا لَمْ يُشِر الكاتبين إلى استخدام القوة العسكرية صراحة بل استثمارها.
وهناك تعريف للباحث العراقي (مازن الرمضاني) والذي يعرِّفُ فيه الردع على أنه (استراتيجية سياسية ذات أدوات عسكرية تُبنى على ربط السياسة الخارجية بالتخطيط العسكرى )
وهنا نرى أنَّ مفهوم الردع تطور مع تطور مفهوم القوة والاستراتيجيات العسكرية الحديثة مِن مجرد الاعتماد على القوة العسكرية إلى الاعتماد على جميع مقومات الدولة كما سنرى لاحقًا ولكن لماذا؟ فالردع العسكري هو ردعٌ (دفاعي) يهدف في الأساس إلى منع حدوث عمل عدائي ضد دولة ما، فهدف الردع الدفاعي هو تجنب حدوث حرب ضدك وتفادي اختبار القوة مع عدوك، ومع تطور مفهوم القوة تطوَّرَ مفهوم الردع مِن مجرد ردعٍ عسكريٍ إلى ردع متمثل في توظيف وسائل القوة عن طريق التهديد باستخدامها مثل القوة (العسكرية- السياسية – الاقتصادية – الإعلامية – الجغرافية) كل هذه وسائل قوة تَمَّ استخدامها في ردع دولٍ لدولٍ أخرى وبمعنىً آخر فإنَّ الردع أصبح لغة حوار كما أشارت الباحثة (سوسن العساف) أنَّ الردع أصبح (حوار إرادات متصارعة بين خصمين يرمي أحدهما أو كلاهما إلى منع الآخر مِن القيام بعمل لا يرتضيه) إذْ أنَّ الردع يستهدف إرادة الخصم وليس فعله.
وقد عرَّف السيد (أمين الهويدي) في كتابه الصراع العربي الإسرائيلي بين الرادع التقليدي والرادع النووي الردع بأنه (منع الأطراف مِن اللجوء إلى القوة أو فن عدم استخدام القوة بالرغم مِن وجودها أو هو فن تجنب القتال).
إذًا بعد كل هذه التعريفات ظهر لنا أنَّ الردع هو في الأساس عملية نفسية تهدف إلى إقناع أو إجبار أو إخضاع العدو بعدم جدوى الحرب أو أي قرار آخر سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو حتى دبلوماسيًا يهدد مصالحنا وقد ذكرنا أنَّ الردع أصبح لا يستخدم فقط بالطرق العسكرية بل بجميع وسائل القوة لدى الدولة.

القوة ترتكز أساسًا على شقين:
شِقٌ ملموس وهو القدرات العسكرية مثل (القوات البرية والجوية والبحرية بما فيها مِن دبابات وسفن وغواصات وصواريخ ومقاتلات ومروحيات وأقمار صناعية)..
وشِقٍ آخر يسمى ب(القوة الكامنة) وهي (القوة البشرية والاقتصادية و العلمية و التكنولوجية بل والقوة المجتمعية وهي ترابط فئات المجتمع مِن الداخل مِن دياناتٍ وأعراقٍ مختلفة) كل هذه القوى تدخل في بناء القوة العسكرية، وتعتمد القوة الكامنة للدول على ثروة الدول وتعداد سكانها، إذًا القوة العسكرية تحتاج إلى الأفراد والمال والتكنولوجيا لبنائها والقتال بها ومِن هنا فإن الحرب ليست الطريقة الوحيدة للوصول إلى القوة بل يمكن الحصول على القوة بالتعداد السكاني و الاقتصاد القوي و التطور العلمي وأكبر دليلٍ على ذلك تجربة الصين.
مِن هذا التعريف يظهر لنا أنه إنْ كانت هناك دولة تمتلك قوة اقتصادية أو سياسية أو دبلوماسية بجانب القوة العسكرية يمكن أنْ تمارس بها ردعًا لدولة أخرى لأنه كما سنذكر لاحقًا أنَّ أنواع الردع بينها ما هو مبني في الأساس على القوى الناعمة للدولة (اقتصادية أو سياسية أو دبلوماسية) ويمكننا تحديد أنواع ومظاهر الردع والتي تقوم على أربعة مظاهر تُمارس بقوى مختلفة مثل:

1-  الردع بالعقاب:
وهو تهديد الخصم بعقابٍ شديد ورهيب إذا أقدم على القيام بأعمال أو إجراءات تهدد الطرف الرادع، وهو الأسلوب الأكثر شيوعًا حتى أنَّ بعض تعريفات الردع تُبنى على هذا التعريف فقط.
2-  الردع بالإقناع:
وهو إقناع الخصم بأنك تملك ما تُحَصِّنُ به نفسك ضد عدوانه بما يقنعه أنَّ عدوانه غير مُجْدٍ أو أنَّ خسائره تفوق مكاسبه.
3-  الردع بالاطمئنان:
وهو السعي لطمأنة الدول الأخرى بحسن نواياك مما يخفف مِن خطر الاستفزاز أو تأهب الدول الأخرى، مثل أنَّ ضخامة قوتك سوف تستخدم فقط دفاعًا عن نفسك ضِد أي خطر؛ أي أنك تستخدم ردعًا دفاعيًا فقط .
4-  الردع بالمكافأة:
وهي إغراء الخصم ببعض القرارات التي هي بالأساس في صالحه دون أنْ تضر بمصالحنا العامة مثل ما حدث بين العراق والكويت حين قدَّم الكويت قرضًا ب(85مليون دولار) بدون فائدة لمدة 25عام عندما تولى حزب البعث السلطة عام 1963 وتخلى العراق في نفس العام عن مطالبته بجزيرتى (وربة و بوبيان).
وهنا فمن الملاحظ أنَّ الردع تم تحديده ب( التهديد- الإقناع- الطمأنة – الإغراء) وكلها عوامل نفسية يمكن تنفيذها بمجرد تصريح شفهي تسانده قوة اقتصادية أو سياسية وليست حتمًا عسكرية ولكن شرط الردع أنْ يصدق خصمك (تهديدك- إقناعك- طمأنتك – إغراءك) وإلا سيكون مجرد درع فارغ وعارٍ مِن الصحة وأبسط مثال على ذلك ما حدث في حرب أكتوبر فقد ظن الإسرائيليون أنَّ (قنبلتهم النووية و خط بارليف وقوتهم الجوية وجنودهم المتعلمين وسلاحهم المتطور) سيردع المصريين عن استعادة سيناء ولكن عندما سقط الحاجز (النفسي) سقط الردع وبالتالي أصبحت عناصر الردع الإسرائيلية عناصر تحفيزٍ مصرية لقيام حرب عادلة لاستعادة الأراضي المحتلة.

شروط نجاح سياسة الردع:
كما ذكرنا أنك إذا ملكت عناصر الردع دون مصداقية (تهديدك- إقناعك- طمأنتك- إغراؤك) فإن ردعك سوف يفشل وتنتج عنه نتائج كارثية أضخم إنْ لَم تهدد بها في البداية،
لذلك فإنَّ الردع يحتاج إلى بعض الشروط والعوامل لإنجاحه وقد حددها الاستراتيجيون العسكريون إلى خمسة عوامل وشروط هي:

1- القدرات:
وتعني وجود مقومات أشكال الردع التي سوف تقوم باستخدامها أو التي تملكها أصلاً وهي أشكال القوة كما ذكرناها سابقًا بشقيها الملموس والكامن ولكن قوة بدون قدرة لا تعتبر قوة وهنا فهل قوى دول الخليج مجتمعة تملك (القدرة) على ردع إيران؟!
فالردع قدرة قبل أنْ يكون قوة فإذا امتلكت القوة دون القدرة على تنفيذها فهي تزيد مِن المخاطر، ولا تقللها فالردع يُبنى على القدرة على تنفيذه وليس فقط امتلاك قوات فإسرائيل مثلاً تملك قوات وأسلحة أقل بمراحل (على المستوى التقليدي) مما يمتلكه العرب مجتمعين ولكن ما الرادع عن تحرير الأراضي الفلسطينية هل (الرادع فوق التقليدي) النووي؟! لا، بل القدرة على تنفيذ التهديد به وليس مجرد امتلاكه تمامًا مثل كوريا الشمالية ففي الوقت الذي نظن فيه بجنونِ حاكمها إلا أنه يمارس ردعًا عسكريًا بقوى إعلامية لإيصال رسالة مفداها (هذا ما أعددناه لكم فى حال فكرتم بحربنا)، فلولا تفجير قنبلتي هيروشيما وناجازاكي لما امتلك السلاح النووى كل هذا الكم مِن الردع والرعب منه وأصبح إمتلاكه مِن أكبر وأصدق صور الردع.
إذًا فالعامل الحاسم في تحديد مدى مصداقية ردعك هو القدرة على الفعل الذي يمكن إحداث أكبر قدر مِن الأذى والضرر لخصمك في المكان والزمان المناسبين.

2-  المصداقية:
وهي الشرط أو العامل النفسي الأكثر تعقيدًا والأهم لإنجاح سياسة أو استراتيجية الردع وهي ترتبط بشكل كبير بالطرف المراد ردعه فإذا لَمْ يصدق مدى مايمكن أنْ تسببه له مِن أضرار أو إنْ كنت قادرًا في الأساس على ردعه بقدرتك أو إمكانياتك (فمثلاً إنْ شَكَّ في قدرتك على تحمل الأعباء)، ضعفت فرص تصديق خصمك لتهديداتك وبالتالي فشل الردع، والمصداقية تكمن في أنْ تملك الوسيلة والإرادة لتنفيذ (تهديدك- إقناعك-  طمأنتك- إغراءك) وإيصال رسائل ثابتة غير متناقضة، ومِن المعروف أنَّ مصداقية الردع هي ما بنيت عليها الحرب الباردة، ويختلف الباحثين على مدى أهمية عنصر المصداقية مِن أنها عنصر كافٍ أو أنها ضرورية وليست كافية لإنجاح الردع.
3-  المعلوماتية:
الردع في الأساس ليس سرًا بالعكس هو إعلام الخصم بِكَمٍ (كافٍ) مِن المعلومات لإقناعه بمدى مصداقيتك وقدرتك على ردعه والمناورات المشتركة والإعلان عن بعض صفقات السلاح أحد أشكال الإعلام الردعي ولكن كما ذكرنا بالقدر الكافي، فبعض الإعلاميين وليس الباحثين خصوصًا في ظل ثورة المعلومات وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، يرى أنه إنْ قام بمعرفة خبر معين فيه طريقة استخدام سلاح معين أو صفقة معينة لَم يتم الإعلان عنها فإنها سابقة صحفية وهي في الأساس تقديم معلومات في غاية الأهمية على طبق مِن ذهب للأعداء ومنها فعندما يعرف عدوك طريقة استخدامك للسلاح الردعي يمكن تعديل طرق هجومه أو دفاعه وبالتالي تخسر عنصر ردعك المتمثل في سرية ما سوف تفعله به وهنا فإن هناك فرقًا شاسعًا بين الإعلام الكافي أو الرسائل النفسية والسوابق الإعلامية والصحفية التي تفتقر إلى الوعي الأمني للمعلومات وهناك الشق الآخر مِن المعلومات وهو التركيز على معلومات أجهزة المخابرات لديك بشتى أنواعها بما يفيد بقدرة خصمك والأهم كيف ينظر خصمك إليك وإلى بلدك مما يجعل مِن السهل وضع استراتيجية صحيحة وناجحة للردع وكيف يتعامل الأفراد والجماعات مِن صانعى القرار والمؤثرين فيه مع التهديدات وقدرتهم على تحملها، وهنا فإنَّ الردع يفشل عندما يحتفظ (ببعض) أدواته وأشكاله سرًا دون إيصال معلومات إلى الخصم فلا تكون أدنى مِن المطلوب أو أكثر مِن المطلوب فهى تنفيه أو تضعفه وهنا فإن تبادل المعلومات مِن أهم أشكال إنجاح الردع .

4-  خبرة الردع:
وجود قدرة ومصداقية بدون كفاءة التنفيذ يضعف مِن قدرة الردع. وخبرة الردع هي أنْ يكون لدى أطراف الصراع كفاءة الأداء والتنفيذ والالتزام بقواعد اللعبة وبالأخص في ظل التطور السريع لأنظمة التسليح وتعاظم قدرتها المستمرة بالتوازي مع تعاظم أهمية الاقتصاد في العالم الآن وما يحمله مِن أدواتٍ تؤثر في مُجريات أي صراع ولو على المدى البعيد نسبيًا، وتتشكل خبرة الردع بعدة شروط مِن أهمها :
1- الخلفية الفكرية والسلوكية لصناع القرار.
2- مدى إدراك صناع القرار لمستوى التهديد القائم والمحتمل.
3- القدرة على حُسن توظيف الإمكانيات والقدرات المتاحة لإدارة الصراع.
4- الوعي بظروف النظام الدولي وإمكانياته القائمة مِن أجل اختيار مناسبٍ لاستراتيجية الردع.
5- العقلانية:
يرى الاستراتيجي (شارلز فيركسون) أنه مِن شروط نجاح الردع (افتراض أنَّ الخصم يتصرف بطريقة عقلانية قائمة على الترشيد والتمييز والتقدير السليم للمواقف وتحقيق هذا الوضع يكسب الردع جانبًا مِن قوة التأثير) والعقلانية مرتبطة بالجانب النفسي ومحاولة الخروج مِن الأزمة عن طريق المبادئ والقيم والمحافظة على الشعوب، وأكبر مثال أزمة الصواريخ الكوبية والتي قامت بجانب الاستعدادات العسكرية غير المسبوقة وحالة التأهب النووي على إشارة جون كيندي للسوفييت بما سوف يحدث حين تُستخدم هذه الحشود وهنا قال كيندى مقولةً لكبير مستشاريه وهي مقولة لِ صَنْ تزو (الحرب نضال أخلاقي نربحها في المعابد قبل أنْ نخوضها) وهنا تحول الردع مِن التهديد إلى أخلاقية وظهور جانب إنساني في الصراع والإغراء بالمكافأة كما حدث حين تَمَّ تفكيك صواريخ جوبتر في تركيا مقابل صواريخ ساندال في كوبا وبالتالي حُلَّت الأزمة بالقوة الناعمة وليس بالتهديد، فالتهديد ليس هو الوسيلة الوحيدة والمُثلى لحل الأزمات، بالعكس فقد يزيد مِن القلق والشك والعداء ويتحول لحافزٍ للحرب بدلاً مِن أنْ يكون رادعًا.
وهنا فإنَّ الردع ليس صلبًا كالتهديد والإقناع ولكنه أيضًا ناعمٌ كالاطمئنان والمكافأة، والقوة الناعمة ليست ضعفًا بل قوة أكبر تأثيرًا مِن التهديد والحرمان.

وقبل كل شئ كما ذكرنا أنَّ الردع نفسي وليس مادي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى