تدقيق: أحمد علي
يقال أن الفيلسوف اليوناني سقراط كان جالساً يوماً؛ وسط تلاميذه وقد طرح عليهم سؤال، فحاول الجميع الإجابة عليه إلا واحداً منهم لاذ بالصمت؛ فخاطبه سقراط قائلاً “تكلم حتى أراك”..ومن الأقوال المأثورة عن الإمام علي رضي الله عنه “تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا، فَإنّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ”.
أعتقد إن تلك الفكرة تنطبق على الدول بقدر ما تنطبق على الأفراد، فإذا لم “تتحدث” الحكومات في وقت الأزمات أو القرارات الكبرى والمصيرية فسيتعين عليها مواجهة عواقب هذا الصمت، من فهم خاطئ وشائعات واتجاه معارض للفكرة من قطاع واسع من الرأي العام بسبب ما تلقوه من معلومات مغلوطة من جهات لديها أهدافها، في حين أن من يملك المعلومة الصحيحة آثر على نفسه الصمت لسببٍ أو لآخر.
وإن كانت الدولة لديها من المعلومات ما قد يضر إفشاؤه بالأمن القومي، فعلى الجانب الآخر لا يمكن أن يُلام المواطنين على اتخاذ موقف ما لم تتاح لهم كافة المعطيات ليكون الأصح.
كما يضاعف من التأثير السلبي لهذا الصمت أزمة الثقة بين الشعب المصري وبين التصريحات الحكومية الرسمية التي تكونت خلال عقود، وخلال السنوات القليلة الماضية كانت هناك عدة تجارب عملية أثبتت أن هذا الصمت أضر بالإدارة المصرية وأثار الشكوك حول اتجاهاتها وقراراتها دون داع يذكر.
فعلى سبيل المثال، هذا الصمت المطبق والمفاجأة المدوية التي أحاطت باتفاقية جزيرتي تيران وصنافير أربك الرأي العام بشكل كبير، حتى بين المؤيدين للنظام، وكثرت الشائعات وحاول الإعلام بكل ما أُوتّي من قوة إيضاح الأمر وأخذ رأي الخبراء لاستجلاء الحقيقة، في حين استغل الإعلام المعادي الفرصة للتشكيك في وطنية النظام المصري وقيادته واتهمهم صراحة بالخيانة.
وتكرر الأمر عندما ظهر المدعو محمد علي فجأة ليصور حديثه المرسل عن وقائع فساد بالقوات المسلحة وكأنها حقائق مؤكدة، وكان الهدف من وراء هذا الحديث المغرض هو تشكيك المصريين في عمود خيمة الدولة المصرية واستعدائهم عليه، واستمر هذا الهجوم لمدة عشر أيام كاملة دون رد إلى أن تولى الرئيس بنفسه مهمة الرد والإيضاح واستطاع في دقائق قليلة، ولما له من مصداقية، أن ينفي كل تلك الادعاءات المغرضة ويعيد الاستقرار للرأي العام مرة أخرى بعد أيام من البلبلة، وإن كان هذا الرد جاء متأخراً.
وجاءت آخر حلقات هذه السلسلة الطويلة من الصمت من جهة والدعاية السلبية من جهة أخرى؛ هو تأسيس الصندوق الخاص لقناة السويس، والذي يستهدف الحد من اعتماد القناة في مشاريعها على موازنة الدولة، وظلت الدولة بجميع أطرافها المعنية تراقب هذا اللغط السائد دون رد إلى أن في النهاية أقام رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع، مؤتمراً صحفيًا حاول فيه إيضاح الأمر والاجابة عن عدد من التساؤلات وإن جاء هذا المؤتمر متأخراً أيضاً، وكان بحاجة للمزيد من التفاصيل والشرح وخاصة في ملف على هذا القدر من الأهمية والحساسية.
وهنا لابد وأن نطرح سؤالاً قد يبدو غاية في الأهمية..هل سمع أحد صوت المتحدث الرسمي بإسم الرئاسة السيد بسام راضي؟ على مدار سنوات هل عقد مؤتمراً صحفياً واحداً يواجه فيه أسئلة الصحفيين والرأي العام حول أهم الأحداث العالمية والمحلية؟ إن أساس وجوده على طاولة كل اجتماع يعقده الرئيس هو ليكون مُطّلع على كافة التفاصيل ليستطيع الإجابة على الأسئلة التي يموج بها الشارع المصري، لا أن يكتفي ببيانات مكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي المقابل نجد مثلاً أن ديميتري بيسكوف المتحدث بإسم الكريملين ونيد برايس المتحدث بإسم البيت الأبيض يتحدثوا ويوضحوا الكثير من الأمور والمواقف، أكثر ما يفعل كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو نظيره الأمريكي جو بايدن.
كما أن هناك مؤتمراً صحفياً يُعقد بالمركز الإعلامي للبيت الأبيض صباح كل يوم ليجيب عن عشرات من الأسئلة الصحفية، وعلى حسب أهمية الأحداث تكون شخصية من يقود هذا المؤتمر، وإذا إقتضى الأمر يكون الرئيس بنفسه هو من يعقده.
وفي بلد له ثقله وأهميته في المنطقة والإقليم، وفى تلك المرحلة التي تموج بالإحداث والمتغيرات عالميًا وإقليميًا ومحليًا، ربما على مدار الساعة، تزداد أهمية أن “نتحدث” ونشرح ونفصل المواقف حتى يتثنّى للرأي العام إتخاذ قراراته ومواقفه عن دراية مبنية على حقائق، وفي الوقت نفسه نستعيد الثقة المفقودة في مصداقية وشفافية الحكومة المصرية،
وليس المتحدث بإسم الرئاسة فقط، فهناك في كل وزارة وهيئة ومؤسسة في مصر شخص أو أشخاص مهمتهم الوحيدة هو أن يتحدث ويشرح ويرد على الأسئلة..فلماذا إذاً هذا الصمت؟
فإذا كانت الإدارة المصرية تهدف لتقوية الجبهة الداخلية والحصول على ثقتها ودعمها فلابد لها في المقابل أن تبادلها تلك الثقة وأن تناقش الملفات الهامة بشفافية وتعيد شرحها دون ملل أو تأفف، في وقت تُهَاجم فيه الدولة المصرية إعلاميًا وفكرياً يجب أن ندافع عنها بالمصداقية وتقديم المعلومة الصحيحة دائماً وفي وقتها الصحيح، إلى الإدارة المصرية..تحدث حتى أدعمك