العميد سمير راغب يكتب..قبل دقائق من موعد الهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا
كتب: العميد/ سمير راغب
تدقيق: ياسر فتحي
لفهم دوافع الرئيس بوتين للموقف الحاسم تجاه الغرب، مِن المهم أنْ نلاحظ أنَّ روسيا قد شهدت خمس موجات مِن توسع الناتو شرقًا، وكان عليها أنْ تقبل انسحاب واشنطن مِن المعاهدات التي تحكم الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، والقوات النووية متوسطة المدىٰ، وطائرات المراقبة غير المسلحة (السماوات المفتوحة) انسحابٌ مِن الطرف الأمريكي بالنسبة له، أوكرانيا هي الموقف الأخير، أو الخط الذي لايسمح باختراقه، والذي إذا سقط سوف تكون مسافة صواريخ الناتو مِن موسكو ( من ٥ الى ٧ دقائق)، لا شك أن هناك تفاصيل كثيرة في الأزمة، لكن في هذا التحدي فإن بوتين يحظىٰ بدعم مؤسساته الأمنية والعسكرية، وقطاعٍ شعبي كبير، ربما لا يتوفر هذا الدعم الشعبي في تفاصيل الصراع، لكن بناءً على ذلك و مع اقتراب عام 2021 مِن نهايته، قدمت روسيا للولايات المتحدة قائمةً بالمطالب التي قالت إنها ضرورية لدرء احتمال نشوب صراع عسكري واسع النطاق في أوكرانيا، في مسودة معاهدةٍ سُلِّمَت إلى دبلوماسي أمريكي في موسكو، طالبت الحكومة الروسية بوقفٍ رسمي لتوسيع الناتو شرقًا، وتجميدًا دائمًا للتوسع الإضافي للبنية التحتية العسكرية للتحالف (مثل القواعد وأنظمة الأسلحة) في الأراضي السوفيتية السابقة (ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا)، وإنهاء المساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، وفرض حظر على الصواريخ النووية متوسطة المدىٰ (INF) في أوروبا.
الرسالة كانت واضحة، ولم تكن الرسالة هي الأولىٰ، “إذا لم يكن بالإمكان معالجة هذه التهديدات دبلوماسيًا، فسيتعين على الكرملين اللجوء إلى العمل العسكري”.
كانت مخاوف الاتحاد الروسي ليست جديدة، بل مألوفة لدىٰ صانعي السياسة الغربيين، وبدلاً عن الاعتراف بالأخطاء التي ارتُكبت على طول الطريق والتعويض عنها، والدخول في مفاوضات (ربحٍ مشترك)، ونزع فتيل الأزمة، لكن عدم قدرة قادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي المتغطرسة على الاعتراف بالمخاوف الأمنية الروسية المشروعة، ظلت استجابة الناتو لسنوات بالقول إنَّ موسكو ليس لديها حق النقض (الفيتو) على قرارات الناتو وأنه ليس لديها أساس لمطالبة الغرب بالتوقف عن إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.
وضعٌ استمر ٣٠ عامًا، وافقت موسكو على مضض على هذا الوضع وعلى هذه الشروط، وضعٌ وصفه بوتين في مؤتمر صحفي كبير في تلك الاثناء بقوله “قالوا لنا في التسعينيات لن نمتد شِبرًا واحدًا إلى الشرق، فماذا حصل؟ إنهم خدعونا! خدعونا بوقاحة وأطلقوا خمس موجات لتوسع الناتو”.
وأشار الرئيس إلى أنَّ روسيا في كل مرة أبدت قلقها إزاء تمدد حلف شمال الأطلسي، غير أنه تجاهل مباعث القلق هذه وأصر على أنه سيفعل كل ما يعتبره مطلوبًا دون مراعاة موقف موسكو”، ونشأ عن هذا الوضع “هذا التوسع أسفر عن نشر منظومات عسكرية هجومية للناتو في رومانيا وبولندا، عند مقربة مباشرة مِن حدود روسيا، بينما يتحدث حلف شمال الأطلسي اليوم عن إمكانية انضمام أوكرانيا إليه، أو نشر منظومات هجومية في أراضيها بموجب اتفاقيات ثنائية”، وضعٌ وصَفَهُ بوتين عبر سؤال
“ما الذي سيكون عليه موقف الأمريكيين لو نشرنا صواريخنا عند حدودنا مع المكسيك والولايات المتحدة؟”
هذا الوضع، عجَّل بما يسمى بأزمة أوكرانيا، إنها في الواقع أزمة عابرة لأوروبا، وتمثل عدة أزمات، أولها أزمة العلاقات الروسية- الأوكرانية، وثانيها أزمة الداخل الأوكراني، وعلاقة الناطقين بالروسية في دونباس والجنوب مع كييف و المواليين للغرب، وثالثها توسع الناتو شرقًا على حساب الأمن القومي الروسي.
الخطاب العام القاسي مِن جميع الأطراف ربما يظهر أشياء لها علاقة بالتصعيد العسكري، وما يبدو أنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا قريبٌ على حد الرواية الغربية، لكنه يخفي الكثير مِن التفاصيل، وأهمها لماذا تفجرت الأزمة؟
الوضع تغير الآن وأصبح للروس اليد العليا، عسكريًا، ودبلوماسيًا، وسياسيًا، فوفقًا لأجهزة المخابرات الأمريكية، فإن روسيا لديها مايقرب مِن 100000 جندي، وقدرٍ كبير مِن الأسلحة الثقيلة المتمركزة على الحدود الروسية- الأوكرانية، و ٣٠ ألف جندي جنوب بيلاروسيا، بالإضافة للقوات المتمركزة في القرم، والحشد البحري في البحر الأسود، لذلك تبدو روسيا مصممة على متابعة الإجراءات المضادة إذا لم تحصل على ما تريد، وقد انعكس هذا التصميم في كيفية تقديمها للمعاهدة المقترحة مع الولايات المتحدة واتفاقية منفصلة مع الناتو، وكانت لهجة كلا الخطابين حادة وقوية ومحددة، لقد مُنح الغرب شهرًا واحدًا فقط للرد، ولا شك أننا تجاوزنا الشهر، لكن تفاعلات الأسبوع الجاري ربما تعجل في الرد الغربي أو الروسي، مما أدىٰ إلى منع التحايل على إمكانية إجراء محادثات مطولة وغير حاسمة، وهو الذي أكد عليه اليوم السيد لافروف في لقائه مع بوتين، وتم نشر المسودتين بعد تسليمهما مباشرة تقريبًا، وهي خطوة كانت تهدف إلى منع واشنطن مِن تسريب الاقتراح وتدويره.
مسودة المعاهدة الأمنية هي محور المفاوضات، سواء عبر الاتصالات الهاتفية الرئاسية مع الجانب الأمريكي، أو لقاءات المسئولين الغربيين بنظرائهم في روسيا، أو أي لقاءات منتظرة خلال الأيام المقبلة، ومِن واقع تصريح بوتين نهاية العام “الآن يطلبون مني أي ضمانات! أنتم الذين يجب عليهم تقديم ضمانات إلينا هُنا، وفورًا ودون عرقلة الأمر لسنوات!”.
أي لاينتظر أحد ضمانات روسية قبل الضمانات الغربية، وأنَّ سقف التفاوض محدد ولن يمتد.
كذلك لن تتوه موسكو في دروب المفاوضات، بل إنها تنتظر نتائج، كما عبَّر الرئيس بوتين “موسكو ترىٰ أولويتها في ضمان أمنها”، مُضيفًا “خطواتنا ستتوقف ليس على سير المفاوضات، بل على الضمان غير المشروط لأمن روسيا”.
المفاوضات بدأت في شهر يناير على قاعدة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، و لخص بوتين التهديدات قائلاً “الغرب يسعىٰ إلى تفكيك روسيا”، وقال “دون أي حيلة طرحنا بشكل مباشرٍ المسألة بشأن ضرورة وقف تمدد الناتو شرقًا، الكُرة الآن في ملعبهم وعليهم الرد علينا بطريقة ما”.
ولكن لم يتم الرد على شواغل الروس، وبدأ الحديث عن الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، التي هي عَرَضٌ لمَرض يهدد الاتحاد الروسي كما قال الرئيس بوتين “بأن روسيا لا تهدد أحدًا، لكنها لن تتسامح مع محاولات جعلها طرفًا في النزاع الأوكراني”.
لايمكن لأحد أنْ يجزم بأنَّ هناك عملاً عسكريًا وشيكًا، لكن لا يتصور أحد أنَّ عدم الاستجابة لمطالب روسيا سوف يمر بدون ثمن، وخاصة أنَّ حشد قوات الناتو في شرق أوروبا وخاصة (بولندا، ورومانيا، ولاتفيا)، زاد عقب الأزمة، وكذلك الدعم العسكري لأوكرانيا، وفتح ملف ضم دول محايدة كفنلندا والسويد، ودول روسية سابقة مثل جورجيا، الذي يعني أنَّ الأوضاع الآن أسوأ مِن يوم حديث بوتين يوم ٢٣ ديسمبر ٢٠٢١، فبوتين لا يرغب في احتلال أرض، لكنه يرغب في عودة الأوضاع الأمنية و العسكرية في أوروبا كما كانت قبل عام ١٩٩٧، ومعيار المكسب و الخسارة يعتمد على ما يتم تحقيقه في ذلك، وليس في قضية حرب في أوكرانيا أو غيرها.
الغرض الاستراتيجي مِن أي حرب هو خلق وضعٍ تفاوضي، أو تحسين شروط التفاوض، لتتحقق أفضل النتائج لطرف بإذعان الطرف الآخر، ولذلك فإن التحركات العسكرية الروسية خلقت وضعًا تفاوضيًا، إذا حقق استجابة فلا داعي للحرب، وإذا لم يحقق فلابد مِن الذهاب للحرب وغزو أوكرانيا، أما خيار الإذعان الروسي فهو المتاح إذا تراجع الروس الآن فالوضع سيكون أسوأ مِن ماقبل ديسمبر الماضي، فحلف الناتو أصبح أكثر فاعلية وترابطًا، وعادت أمريكا تدعم الضفة الشرقية للناتو، ولازالت لغة الحلفاء الأوروبيين تتجاهل شواغل الروس، والحديث عن التَّبِعات الكارثية للعقوبات الاقتصادية المؤكدة على روسيا حال قيامها بعملٍ عسكري في أوكرانيا، وتتجاهل عواقب حربٍ هي الأكبر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعاتها على القارة العجوز، مِن قطع إمدادات الطاقة، والهجرة، واللاجئين، وعسكرة الاقتصاد، وانتقال عدوىٰ الصراعات المسلحة لمناطق أخرى، و الارتباط في صراع أوروبي بدلاً مِن التحرك شرقًا في اتجاه الصين وجنوب الباسيفيك، وجنوبًا في اتجاه (أندو- باسيفيك)، والمُضي في نماذج “المباريات ذات النتيجة الصفرية”، فيخسر الجميع، بدلًا مِن نماذج “الربح المشترك” التي يقتسم الجميع فيها الربح والتنازلات.