فُقاعة تاريخية.. اسمها “المركزية الغربية”
كتب: د. نديم عمر
يخطئ من يتصور أن الاستعمار كان قديمًا يتحرك بأدوات عسكرية فقط؛ بل إن التحرك العسكري يعد المرحلة النهائية في التوجه الاستعماري، ولكن.. هناك أدوات أخرى أكثر عمقًا، وتجذُّرًا، وخطورة، والخاصة بالبنيوية الفكرية للمستعمر.
ولو فتشنا وراء تلك الحركات؛ لوجدنا تيارات فكرية داعمة للاستعمار، ومؤيدة، وموجهة له، ففي العام 1741، ظهر مفهوم “الاستثنائية الأوروبية”، وكان أول من طرح هذا المفهوم هو الناشر، والمؤلف الألماني “يوهان هاينرش زيدلر”؛ عندما قال: “على الرُّغم من أن أوروبا من أصغر القارات في العالم، فإنّها، لأسباب مختلفة، في موقف؛ يضعها قبل كل الآخرين؛ فسكانها لديهم عادات ممتازة، فهم مهذبون، ومثقفون في كل العلوم، والحرف” ، ولو دققنا في الجملة جيدًا؛ لوجدنا الدافع الفكري الاستعماري متجردًا تمامًا، وعرفنا لماذا ينظر الغرب دائمًا للآخر بتلك النظرة الفوقية المتعالية، التي تضع أحكامًا مُسبقة حول الترتيب الإنساني، وبشكل بالغ العنصرية، والتمييز ؟!
ولم تقف تلك الاستثنائية عند حد رأي مؤلف، وناشر ألماني؛ بل أخذت حتى شكلًا فلسفيًّا مؤسسًا، ولعل الأطروحة الفلسفية الخاصة “بمركزية الغرب”؛ وهي المستوى الثاني من “الاستثنائية الأوروبية”، قدمها، ودافع عنها، بشكل مستميت، أحد الآباء الأوائل للفلسفة الأوروبيية؛ وهو “جورج فريدريش هيجل”؛ الذي آمن بأن التاريخ ربما يكون قد بدأ في الشرق، ولكنه انتهى إلى الغرب، وأن دول العالم، خاصة الشرقية، تفتقر لمقومات الحراك التاريخي، وأنها خرجت منه، وضم لذلك دول إفريقيا كلها، ودول كبرى، مثل؛ الهند، والصين !!
ولم تتوقف حركات الدعم الاستعماري الفكري عند نقطة التفوقين الوجودي، والعرقي للرجل الغربي؛ بل سنجد أن مفكرًا بحجم الألماني ” ماكس ويبر” مثلًا استقر في رأيه على أنه، حتى النظام الاقتصادي الرأسمالي، لابد أن يبقى حِكرًا غربيًّا، وأن دول الشرق لا تملك أدوات التطور الاقتصادي !
ومن الممكن أن أُعدِّد، في هذا المقال، عشرات الأمثلة التي شكلت الوعي الجمعي الغربي، ودفعته للاعتقاد بأن حق الوصاية؛ هو حتمية تاريخية، اكتسبها الغرب، وأن الشرق هو نموذج الشخص الفاشل، والمتوحش دائمًا، الذي يحتاج لتلقين، وتهذيب أخلاقي !
ويبدو أن تلك الروح الاستعمارية تجد طريقها حاليًا بين الحين، والآخر؛ عبر رجال سياسية غربيين، يريدون إعادة الهيمنة الفكرية على الآخر، وتقديم نموذج غربي؛ سواء في الحكم، أو في طريقة التعايش.. هذه النماذج تعيش داخل فقاعة تاريخية، لا ترى خارجها، ولم تنتبه، بالشكل الكافي، إلى أن إعادة اختراع العجلة لا طائل منه، في ظل عالم؛ أصبح متعدد الأقطاب، والهويات، وكل هوية فيه لها ظروفها البيئية الحاكمة، وموروثها الحضاري؛ وهو الموروث الذي اعترفوا به يومًا، على لسان القائد الفرنسي التاريخي “نابليون بونابرت” نفسه؛ عندما قال، تحت سفح الأهرامات، مُخاطبًا جنوده، أثناء حملته العسكرية على مصر: ” نحن هنا، وأربعة آلاف عام من تاريخ البشرية ترنو إلينا”.