كتبت: فاطمة رفعت
تدقيق: عبدالعزيز السلاموني
بعد مرور واحد وخمسين عاماً على وفاته، لا يزال إرث الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر محل نقاشات ساخنة، في ذكري وفاته نتذكر الجنازة التي كانت الأكبر في تاريخ البشرية، وقد سار فيها سبعةُ ملايين إنسانٍ، وهو أكبر تجمُّعٍ إنساني ووحدةٍ وجدانيةٍ عرفها كوكبنا.
وفى هذا اليوم، خرجت مسيراتٌ بعشرات الآلاف تحمل نعوشا رمزية لجسد عبد الناصر، فى مختلف مناحى الأمة العربية من الخليج إلى المحيط.
رؤساء دول بكوا فى جنازة القائد الراحل، على الهواء، وأمام الملايين بعد أن رحل الزعيم عبد الناصر، بكوا وانتحبوا في جنازة القائد الراحل، على الهواء، وأمام الملايين (الملك حسين، وياسر عرفات، والقذافي الذي أغشي عليه أكثر من مرة!) هذه الملايين نفسها التي راحت تسير بلا هدى في جنازته كالذاهلين، وقد رحل عنهم الأب والحامي والسند والظَهر وبطل الفقراء.
إن هناك كثيرين ممن يهاجمون الزعيم الراحل، من أجل بعض أخطاء سياساته، غير أن التاريخ لا يحكم دائماً على الشخصيات التي تعبره سوى بالصورة الكلية التي يتركونها، والقيمة التي يرسخونها، وما قدّمه جمال عبد الناصر لأمته لا يمكن أن تخطئه عين، من مشروعات نهوض اقتصادي وبناء اجتماعي ودعم الدولة لخدمات التعليم والصحة والقطاع العام، والتأميم، والسد العالي، ومواجهة الاستعمار، وتعميق الشعور الجارف بالكرامة الوطنية، وبناء دولة المؤسسات، مجانية التعليم، تأميم قناة السويس، دعم الطبقة الوسطى، التصنيع “الثقيل” استعادة تاريخ مصر المنهوب من الاستعمار، زعامة مصر لإفريقيا، القضاء على الرجعية و الإصلاح الزراعي، إنشاء بحيرة ناصر، تسليح الجيش المصري، ريادة مصر عربياً وانفرادها بصناعة القرار العربي، هزيمة الاستعمار في معركة العدوان الثلاثي، تحقيق أحلام الفقراء والبسطاء في المسكن والصحة والتعليم والعمل والكرامة.
ولم يغفل (جمال حمدان) أعظم مفكري مصر، وعالم الجغرافيا الفذ في وصفه للشخصيه المصريه وللحاكم المصري فقال:
(الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون… أنت مصري إذن أنت ناصري… حتى لو انفصلنا عنه (عبد الناصر) أو رفضناه كشخص أو كإنجاز. وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية ولو أراد إلا وخرج عن المصرية أي كان خائنا).
وفي حين تغنى كثيرون بإرث “الزعيم الحاضر الغائب”، وجه معارضوه سهام النقد للنظام السياسي “القمعي” الذي أسسه الزعيم المصري في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، وهو النظام الذي “غابت عنه الديمقراطية تماما” على حد قولهم، والذي ألغى الأحزاب السياسية وشن حملات قمع ضد المعارضين، وسجن بعضهم ولكن المثير للدهشة أن يرثيه معارضوه بأجمل العبارات فنجد الشاعر الصعيدي الحر (عبد الرحمن الأبنودي) في قصيدته”يعيش جمال عبد الناصر” يقول:
مش ناصري ولا كنت في يوم
بالذات وف زمنه وف حينه
لكن العفن وفساد القوم
نسانى حتى زنازينه
ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي يرثيه معارضيه، فرثاه أيضا الفاجومى الشاعر(احمد فؤاد نجم) في قصيدته “زيارة لضريح عبد الناصر” فقال:
عمل عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت
ولا يطولوه العدا
مهما الأمور
جابت
إن التاريخ لا تُحركه الأقلام الموتورة، أو ذات المصالح الضيقة التي تتجاهل أحزان عشرات ملايين الناس، الذين ساروا كاليتامى في جنازة جمال عبد الناصر، لا يعرفون ماذا سيفعلون بعده، أو أي مصيرٍ سيواجهون، ومازالت أصداء وذكريات دموعهم تتردد في جنبات القاهرة.