fbpx
سلايدرمقالات

هشام النجار يكتب: الجرس يقرع.. إما قدوة وعمل أو ضياع

(لمن تقرع الأجراس) هذا عنوان رواية لإيرنست همنجواي لكنه مقتبس من كتاب تأملات لجون دون وهو أحد أبرز الشعراء الانجليز في القرن السابع عشر أنصح بقراءة قصائده وتأملاته الساخرة والظريفة والمريرة في آن واحد، كما أنصح بقصص هنمجواي القصيرة قبل رواياته، والتي تصنع من تفاصيل الواقع والحياة المرئية حكايات مدهشة.

يقول جون دون: (لسنا جزرًا مستقلة بذاتها، كلنا جزء من القارة (جزء من كل)، فإن جَرَف البحر حفنة من التراب نقصت أوروبا، موت أي كائن ينتقص مني، فأنا معني بالبشرية، ولذا لا تراسلني أبدًا لتسألني لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك).
هذا إذن هو الاقتباس (لا تراسلني أبدًا لتسألني لمن تُقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك).
لماذا هذه اللهجة وهذا التمهيد بقرع الأجراس؟
الإجابة: لأن هناك تنامي لمظاهر انحدار قيمي؛ هناك عدم احترام، استعلاء وتكبر وأنانية وغش وفساد وأحقاد وكراهية ورغبة وتصميم في إيقاع الأذي والضرر بالآخر، هناك انتهازية وتربص وتمرد وعدم احترام للأكبر سنًا.. هذا كله على الرغم من أن هناك فائض خطاب ديني، لكنه كلام ومجرد تنظير ونقاشات جدلية وياليتها كانت في الاتجاه الصحيح.

كلام كثير وعمل قليل، وهناك البعض عمله خال من الإتقان والإبداع، وهناك من يركض في اتجاهات لا أفق لها بدون دراسة وتخطيط حيث تسود العشوائية والخفة حتى لدى اتخاذ قرارات مهمة.

هناك أيضًا بالدول التي لا تزال تعاني من التطرف والإرهاب كلما قضت أجهزتها على مجموعة متطرفة نبتت أخرى، هناك قتل على الهوية وعلى المذهب، رغم أن قيل وكُتب في التقريب بين المذاهب والتسامح بين معتنقي العقائد المختلفة لا حصر له ولا عدد..
الغائب في هذه المشاهد الموصوفة وغيرها هو خلاصة ما ورد في أصل ممارسة الأديان على الحقيقة؛ المرتبطة بالقدوة والأسوة الحسنة وبالتطبيق العملي للقيم على طريقة الرسل، وهذا من المفترض أن ينهض به من يزعمون أنهم يحضون البشر على إتباع تعاليم الأديان (العمل، تحقيق الكرامة الإنسانية، إتمام عمران الأرض، تحقيق رفاهية وسعادة البشر).

السؤال: مسؤولية من تردي القيم وأن الأجيال الآن ليست مثل أجيال الأجداد والآباء؟ الإجابة: (غياب القدوة) في البيت والمدرسة والجامع والجامعة، بل حتى ممارسات بعض من يتحدثون في الدين تجلب في الواقع الاستهانة بأمر الدين خاصة لدى الشباب، لأن الدين أحيانًا يُعرض بصورة مشوهة من أجل مصلحة شخصية أو هوى شخصي أو من أجل الانتصار لمصالح تنظيم معين.

في رأيي فإن افتقاد القدوة الحسنة إلا فيما ندر في مقابل كثافة حضور من يمثلون القدوة السيئة فهذا هو الأخطر من أي انحراف وشطط في تأويل الخطاب الديني ذاته؛ لأن افتقاد الرمز الإصلاحي والنموذج الناجح الذي يطبق القيم بصورة عملية هو ما يفقد المجموع الأمل في وجود جبهة للتصدي لسلوكيات وأفعال الذين يتاجرون بمواقعهم وراء المنابر وتحت الرايات السوداء والبيضاء والشعارات الدينية.
لن يحل الكلام الكثير والتنظير المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، ولن ينجح مشروع مصر الوطني إلا بالوقوف بشكل عملي (لا كلامي ولا جدلي) كأقوى من الظروف والتحديات، وإلا بالقيام بأعمال تبعث الأمل لدى العامة ليشعروا أن هناك ما يستحق البقاء في منظومة الدولة والمجتمع، وليسهموا بالصبر والنضال والمثابرة والكفاح في الحفاظ على التماسك المجتمعي وعلى أمن واستقرار الدولة.
نحن محتاجون لشخصيات تمثل القدوة العملية في كل مكان؛ في المؤسسات والهيئات والجامعات والمدارس والهيئات والشوارع والبيوت..الخ.

نحن محتاجون قبل أي شيء آخر للإصلاح عبر مصلحين حقيقيين نقديين مجددين يطبقون القيم على أرض الواقع ويجسدون القدوة للشباب والناس والمرأة ويعملون بمقدار أكبر بكثير مما يتكلمون.
لن يدفع للأمام إلا حضور القدوة العملية التي تطور الواقع وتسهم في إصلاحه وتقلل بإتقانها وصدقها وتجردها وإخلاصها من مساحات التشوه؛ لأن الإسلام لي نقاشًا فكريًا وتنظيرات ومحاضرات فقط، بل نضال عملي لتثبيت القيم الرئيسية التي تحكم مجتمعات المسلمين وجعلها بالشفافية وحسن الإدارة وتجويد الأداء جديرة باللحاق بركب المجتمعات الحديثة.

نحن بالفعل نعاني من وجود فائض تنظير ديني وجدل كلامي بينما نحن في حاجة ماسة للاجتهاد والإبداع والإصلاح العلمي والإقتصادي والثقافي والفني والرياضي والتقني، ولرموز ونماذج يمثلون القدوة الحسنة ويقودون مسيرة التصحيح والتغيير بهذه المنظومات مجتمعة.

القدوة في الحياة هو الشخص الطبيعي الذي يعبد الله ويرجوه ويخشاه ويجده أهلًا لكل جمال وكمال، ويحب الخلق (حيوان وإنسان) ويشفق عليهم ويرحمهم ويسامحهم ويعفو عنهم دون إدعاء بأنه الأكمل إيمانًا وخلقًا.

الإنسان القدوة لا يستعلي على أحد، فهو يعبد الله ببساطة ومحبة حقيقية ونقاء نفسي، بدون إدعاء، ولا يزكي نفسه بل يتهمها دائمًا بالنقص، ولا يتهم الآخرين بنقص في دينهم أو أخلاقهم أو عقولهم.
القدوة هو الذي يجمع بين الرفق والبر وتحقيق مصالح الخلق، يقرب من الناس بصدق لا بخداع ومكر وبلين من غير صخب وبهرجة وتعمد لفت الانتباه، وبدون استظهار واستعلاء وتصدر للمشاهد والمنصات والمحافل.

القدوة يكون دائمًا حيث يتوقعه الناس يحقق مصالحهم ويبذل كل جهده في إسعادهم من غير انتظار مقابل أو رد جميل، وبدون منازعة على سلطة أو دنيا أو رئاسة أو مال أو نفوذ.

القدوة متحرر بطبعه الحر من حالة النفاق الاجتماعي التي تصاحب نمط تدين الخديعة باسم الدين أو شعاراته، لأنه يعلم جيدًا أنه لا يجتمع الإيمان الحي مع الوصاية على الناس وعلى ضمائرهم، ولا مع المبالغة في الشكليات والطقوس والتعصب للرأي والتجرؤ واتهام المختلف.

القدوة إيمانه جميل سمح؛ إيمان الناس البسطاء الطيبين الذين يتعايشون مسلمين ومسيحيين ومن كافة الأديان من غير منغصات وصراعات ووصاية وكراهية ليحققوا مقصد الدين الرئيسي، (العمران والتعارف بين البشر والرحمة).
لنتأمل هنا:
الجرس يُقرع في الكنائس عند موت إنسان مسيحي، والمقصود هو (من قَتَل نفسًا بغَير نَفس أَو فَساد في الأَرض فَكَأَنما قَتل الناس جميعًا ومن أَحيَاهَا فَكَأَنما أَحيَا الناسَ جميعًا)، وهذا يدل على أن المفاهيم الإنسانية هي مفاهيم مشتركة بين البشر، فكيف إذا كان القاتل والقتيل أشقاء؟
بدون تنظير وكلام كثير في موضوع المأساة والحرب في غزة.. أنا على يقين بأن الحل كان عمليًا وكان في حضور نموذج القدوة لأن هذا وحده هو الذي يوفر فرص عمل لكل القادرين على حمل السلاح في صراعات العرب والمسلمين بين بعضهم البعض .. (المقاومة في فلسطين هذا أمر مفروغ منه ومعروف طريقتها وتكتيكاتها الناجعة بعيدًا عن المزايدات والإصطفافات الإقليمية والمحاور).

نتكلم هنا عن المقدمات وعن الأطماع والصراعات في الإقليم، حيث لا حل للمأساة التي يعاني منها العرب والمسلمين إلا وجود النموذج العملي، وإلا بتوفير فرص عمل لكل القادرين على حمل السلاح لكي يجدوا مصدر دخل فيحملون منجلا بدل السلاح وصندوق تقاوي بدلًا من صندوق ذخيرة ومسطرة مهندس بدلًا من قنبلة وسماعة طبيب وقلم كاتب بدلا من رشاش.
لنكن واضحين أكثر، هناك مشاريع إقليمية غير عربية عدة وليس مشروعًا واحدًا يستهدف العرب والمسلمين، من ضمنهم مشروع خطط بالفعل لتحويل شباب العرب إلى مرتزقة يحملون السلاح ويخوضون عنه حروبه تحت زيف الشعارات البراقة.

وطالما أن شباب العرب ضائعين حائرين وتائهين، ستتلقفهم قوى الشر، وكان تفويت الفرص على كل القوى الإقليمية غير العربية الطامعة ليس فقط من خلال وقف القتال والصراعات بين العرب وصد الغزوات الطائفية والأيديولوجية المدعومة من الغرب، بل من خلال جذب الشباب إلى حياة مدنية حديثة يجد الفرد فيها فرصته ويعيش حياة مريحة ويحرص على أسرته ووطنه ولا يترك النعمة لينضم لمشاريع تغرس التخلف والرجعية والاحتراب، لأن لديه مكاسب لا يضحي بها مقابل الدمار والموت والبؤس والسواد.

لنكن واقعيين ونواجه أنفسنا، فالوطن في بلاد عربية حولنا لم يعد ذلك المفهوم الثابت الذي لا يتزعزع، ومن السهل جدًا على شاب في بلد فيها حروب وصراعات وظروف قاسية أن يترك وطنه ويتخذ لنفسه وطنًا آخر ويحمل جواز سفره، وهذا ما يستميت الشباب العربي في سبيله، إذ كرهوا الحياة والأوطان ويبحثون عن بدائل فمنهم من هاجر من لبنان ومن سوريا والسودان وغيرها ومنهم من حمل السلاح.
فهل هذا هو الحل؟ ولو كانوا سعداء في معيشتهم أو حتى نصف بل ربع سعداء، ما كانوا حملوا السلاح من أجل الإخوان أو إيران ولا غير إيران.

لا بد من حل شمولي ولابد من عمل ومن ضخ نماذج قدوة عملية، ولا يصح في مثل هذه الظروف الحلول الجزئية ولا الكلام والتنظير، فيما يزداد الدمار والخراب.

الإسلام كنز غالي الثمن هجره المسلمون وخذلوه بملايين من نماذج تتحدث بحق وباطل ولا تتحرك بقيم ومبادئ، لذلك نجد حياة المسلمين اليوم مختلفة تمامًا عما عرفنا من مجد في هذا الدين وأخلاقياته، وما لم يعد المسلمون لحقيقة الإسلام سيظلون متخلفين ومتخبطين في مؤخرة ركب الإنسانية.

الحق أن المسلمين فشلوا في مساعيهم في العصر الحديث بسبب ندرة القدوة والعمل والإتقان وكثرة الكلام وكثرة الفتاوى والتريندات والقيل والقال والتركيز على الشكليات وسفاسف الأمور وتوافهها، رغم أنهم حاولوا وضحوا بأرواحهم وخاضوا معارك وحروب لكن ضاعت تضحياتهم، وصدق فيهم ما ورد في الإنجيل (تبذرون كثيرًا وتحصدون قليلًا، تأكلون ولا تشبعون، تشربون ولا يسكن العليل، ويجمع الأجير أجرته في كيس ذي ثقب، أملتم كثيرًا وحصلتم قليلًا وعندما رجعتم إلى البيت ضيعتم محصولكم..).

وفي القرآن آية عظيمة (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى