من أول نظرة
كتب: مدحت سليمان
بعد غياب امتد إلي ١٧ عامًا بعيدًا عن الوطن، كانت أول نظرة من الطائرة قبل الهبوط في مطار القاهرة، نظرة اختلطت فيها المشاعر، ما بين ذكريات الماضي البعيدة، والصورة الذهنية التي طُبعت في أدغال الذاكرة، وبين صورة مشرقة أمام عينيً لمبانٍ، وأبراج تناطح السحاب، تشعر في لحظة أنك دخلت مدينةً أوربية بالخطأ.
يا الله، ما هذا السحر!!، لقد كانت آخر زيارة إلي القاهرة منذ عام تقريبًا، وكانت المشاهد هي المناظر القديمة نفسها، التي كساها التراب، واتخذتها العناكب بيوتًا، كيف تحقق هذا الحلم بين ليلة وضحاها؟! وكأن هناك من يملك عصا سحرية تعيدنا إلي زمن المعجزات.
كان قراري بمجرد وصولي أن أختطف زيارة إلي العاصمة الإدارية، وإلي مدينة العلمين الجديدة، والتي جذبني الشوق إليهما من مسامع، وأخبار لا تنتهي، وكأنك تسمع حكايات من ألف ليلة وليلة من أصدقاء الغربة.
ورغم طول المسافة بين مدينة الإسكندرية والعاصمة الإدارية نسبيًا لشخص يعاني من الإجهاد السريع من مشاق السفر؛ إلا أنن شوقي كان هو الإدرينالين الذي جعلني كالفراشة وأنا في طريقي إلىي الحلم.
بدا الأمر لي بالشعور نفسه الذي كان ينتابني في شوقي لرؤية صغير من أطفالي حين عودتي من السفر، رفعت نظارتي؛ لأتمكن من رؤية الصورة واضحة، وتوجست خيفة أن تكون النظارة خادعة في نقلها لهذه المباني، والأبراج التي مازالت في خيالي حلم.
بمجرد وصولي، طرأت علي الذاكرة مشاهد بعظمة الأجداد من ٧٠٠٠ عام، ربما كان المشهد باستعادة المصريين حلم الأجداد في البناء، والعظمة بهذا المنظر هو الذي جلب هذه الصورة إلي الذاكرة، أبراج في كل مكان وفي أي مكان لن تستطيع أن تبلغ عيناك مداها؛ فالمساحات شاسعة, والأرض واسعة، والعمران في كل مكان، والأيدي البشرية تتحرك كالٱلات بدقة وتناسب عظيمين؛ يشعرانك انك في مدينة النمل، هذا النظام وهذه الروعة هي من صفات النمل.
تسابقت خطواتي في فرح لمقابلة العمال، والتحدث معهم، كانت كل كلمة تخرج من أفواههم تفيض فخرًا وحماسة، وكأنهم في ساحة المعركة، ولمٌ لا؟! فهي حقًا معركة، معركة إثبات الهوية، واستعادة الأمجاد، معركة القضاء علي المشككين، والمغرضين، والهادمين .
كانت كاميرتي حائرة صعودًا وهبوطًا؛ لتصوير كل لحظة، وكل دقيقة في كوكب اليابان الجديد علي أرض مصرية وبأيدٍ مصرية،
وبعد قضاء ساعات في التنقل تارة بالسيارة، وتارة مرتجلًا، كان قراري بزيارة الجامع، والكنيسة المتجاوران، معبران عن وحدة هذا البلد، ورباط أهله، وكانت الحقيقة أمامي أبلغ من اي صورة، أو حكاية صادفتني في بلاد المنفى الاختياري؛عظمة في البناء، عظمة في التخطيط والتشييد، وإيصال فكرة حضارة جديدة لشعب عاني من الإهمال، والتغييب لسنوات طوال.
وبعد أن غابت الشمس، وصارت الرؤية ضعيفة رغم وجود الكهرباء في معظم المباني؛ إلا أن ضعف رؤيتي الليلية كان سببًا في إنهاء رحلتي التي وجدتها يوم من أسعد ايام حياتي، وقررت العودة كل فترة لأشاهد اكتمال البناء،واقتراب الحلم؛ ليصير حقيقةً تفخر بها أجيال، وأجيال، حقيقة الجمهورية الجديدة، أو بمعني ٱخر ميلاد (الجمهورية الثانية).