fbpx
مقالات

د. محمد بدري عيد يكتب: متى تُطمس “نجمة” إسرائيل.. وكيف يُكسر “سيفها”؟

د. محمد البدري عيد
د. محمد البدري عيد

يثير بقاء إسرائيل واستمراريتها كدولة في منطقة الشرق الأوسط منذ 75 عاماً، حين أعلن في مثل هذا اليوم الرابع عشر من شهر مايو عام 1948م، ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل قيامها، العديد من الأسئلة المُحيرة التي تصل أحياناً إلى حد «الألغاز».

ومن بين أهم هذه الأسئلة التي لا تزال بلا إجابات يقينية حاسمة وشافية:

  • ما هي العوامل الموضوعية التي لعبت الدور الأعظم والأكثر محورية في قيام إسرائيل وتهيئة ظروف هذا «القيام»؟
  • ما هي الأوزان النسبية الواقعية لهذه العوامل وفق مؤشرات يمكن قياسها علمياً وتتبعها عملياً؟ وكيف تمكنت هذه «النبتة الغربية» التي غرست في قلب الدول العربية- وفق مقولات مؤسسي إسرائيل وفي مقدمتهم بن جوريون نفسه- من التكيف مع هذه «البيئة المعادية»، بل وحاولت تطويع هذه البيئة وتغير توجهاتها السلبية إلى موجهات «إيجابية»؟
  • لماذا ظلت إسرائيل باقية لأكثر من 7 عقود حتى الآن رغم طبيعتها المصطنعة، ومعاناتها من»ضيق الجغرافيا» ( انعدام العمق الاستراتيجي الطبيعي) و»ضعف الديمغرافيا» ( محدوية وضآلة القوة البشرية)؟
  • هل السر في ذلك هو الجيش الإسرائيلي، الذي يتخذ من السيف ونجمة داوود شعاراً رسمياً له أم أن ثمة عوامل أخرى أكثر شمولية وتأثيراً؟
  • إلى أي مدى زمني ستظل إسرائيل باقية؟ 100عام أم أكثر أم ستحل عليها «عقدة العقد الثامن» كما أصابت بعض ممالك بني إٍسرائيل تاريخياً؟

في تقديرنا المتواضع، فإن الاقتراب العلمي لمحاولة تقديم إجابات على هذه التساؤلات يقتضي الاجتهاد في تفكيك المتغيرات الحاكمة لوجود إسرائيل والمؤثرة فيه- إيجاباً أو سلباً- منذ إعلان قيامها ابتداء، مروراً باستمراريتها تالياً وآنياً، وصولاً إلى مسارها المحتمل ومصيرها المُرجح مستقبلاً.

وإجمالاً، يمكننا إيجاز هذه المتغيرات وفق ثلاثة مجموعات رئيسية، هي: المتغيرات الخارجية على المستويين الدولي والإقليمي، والمتغيرات الداخلية الخاصة بإسرائيل الدولة والمجتمع أو ما يمكننا وصفه بـ»حالة إسرائيل»، والمتغيرات المتعلقة بما يمكن وصفه بـ»حالة العرب» دولاً ومجتمعات.

على أنه تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أننا نعتمد في تحليلنا هذا بصفة رئيسية على المقولات الأساسية

لما يُعرف في علم الأحياء بـقوانين «الحدود القصوى والدنيا لمستويات التحمل والقدرة على البقاء»، والتي مؤداها أن بقاء او عدم بقاء الكائن الحي يعتمد على جملة من الظروف والعوامل المتباينة، والتي تشمل من جهة أولى جملة المعطيات المختلفة في المحيط الذي يتواجد فيه الكائن الحي، وتتضمن من جهة ثانية مدى تحمل الكائن الحي لنواتج وتأثيرات هذه المعطيات وفقاً لتكوينه الذاتي.

كما يجدر التنويه إلى ان تطبيقنا لمقولات هذه القوانين على إسرائيل إنما هو من قبيل الاستثناء الافتراضي ليس ألا؛ إذ أن إسرائيل لم تنشأ بصورة طبيعية كما هو حال بقية دول العالم، بل هي دولة احتلال قامت على القهر واغتصاب أراضي الغير بالقوة الغاشمة المخالفة لجميع القوانين الدولية المرعية والأعراف العالمية المُعتبرة.

الحالة الدولية والإقليمية.. من الملاءمة إلى التأقلم

شهدت البيئة الدولية والإقليمية تغيرات دراماتيكية خلال العقدين الأخيرين، على نحو جعلهما غير مواتيتين من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، خلافاً لما كان عليه الحال على مدار نحو 52 عاماً (1948-2000م)، حيث كانت المعطيات الدولية والإقليمية ليست مواتية فقط لإسرائيل وأمنها وبقائها ومصالحها، بل كانت مثالية لكل ذلك أو تكاد تكون كذلك.

  • على الصعيد الدولي، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية بوصفها القوة الدولية العظمي ذات الموثوقية التي تعتمد عليها إسرائيل في حفظ وجودها بعد أفول نجم الإمبراطورية البريطانية، لم تعد هذه الدولة هي المهيمن على النظام الدولي بصفة شبه مطلقة أو حتى بشكل ثنائي على غرار ما كان عليه الحال أثناء الحرب الباردة، بل برزت قوى دولية كبرى أخرى مناوئة لها (روسيا بوتين) أو آخذة في الصعود لمنافستها (الصين).

كما أن الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022م جاء كأحدث مثال عملي على تضعضع القوة الأميركية في مساندة الحلفاء لاسيما وقت أزمات البقاء.

أضف إلى ذلك، التراجع المتزايد في الاهتمام الأميركي خلال السنوات الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط وقضاياه لصالح توجيه واشنطن وجهها شطر منطقة آسيا والمحيط الهادئ (الباسيفيك).

ورغم محاولات تل أبيب وحرصها الدؤوب على مد جسور علاقات استراتيجية مع القوى الدولية الكبرى الجديدة، إلا أن الإشكالية تكمن في أن هذه القوى لن تبدي الدعم المطلق لإسرائيل أمنياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً كما هو الحال بالنسبة للدعم الأميركي، حيث تنتهج كل من روسيا والصين سياسة متزنة حيال قضايا الشرق الأوسط لاسيما تلك المتصلة بالصراع العربي-الإسرائيلي؛ وذلك حرصاً المصالح الاستراتيجية طويلة المدى لكلا الدولتين الكبريين في المنطقة.

زد على ذلك، ما تشهده العلاقات الأميركية – الإسرائيلية منذ أكثر من عقد من توتر وخلافات علنية غير مسبوقة ( كما كان الأمر خلال ولايتي الرئيس الأسبق باراك أوباما»2008-2016م» وعلاقاته غير الودية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)، أو على أحسن وجود فتور في علاقات واشنطن- تل أبيب ( كما هو الحال خلال ولاية الرئيس جو بايدن 2020-2023م).

  • على الصعيد الإقليمي، ثمة تطورات ليست في صالح تل أبيب على المدي الطويل، والتي تتعارض مع مصالح إسرائيل واستراتيجيتها التقليدية في تكريس بيئة إقليمية مواتية لوجودها وأمنها كما تراه هي، وفي مقدمة ذلك: بلوغ إيران مرحلة العتبة النووية بموافقة دولية صريحة، وبروز أنماط جديدة من التحالفات الإقليمية على ضوء التقارب السعودي-الإيراني، والمؤشرات المتزايدة على إعادة تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران، وإعادة سورية إلى النظام الإقليمي العربي بعد استعادتها مقعدها الشاغر منذ 12 عاماً في جامعة الدول العربية.

«حالة إسرائيل».. من التماسك النخبوي إلى الانقسام المجتمعى

تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ 2020م، تحولاً تدريجياً للعوامل التي ظلت بمثابة أعمدة التماسك الداخلي على مدار عقود، إلى عناصر ضعف بنيوي، تحد من قدرتها على حفظ أمنها، ناهيك عن بقائها.

ويأتي في مقدمة ذلك: تزايد مؤشرات عدم الاستقرار السياسي، على نحو ما ظهر في حل «الكنيست» وإجراء 4 انتخابات برلمانية مبكرة خلال أقل من 3 سنوات، وهو ما انعكس تلقائياً في قصر عمر الحكومات خلال هذه الفترة، بل والعجز عن تشكيلها خلال الفترة القانونية.

وتعكس هذه التطورات غير المسبوقة، حالة من الانقسام في أوساط النخبة الإسرائيلية التي طالما كان تماسكها بحكم كونها تخبة عسكرية شبه مغلقة أحد ركائز قوة «الجبهة الداخلية»، إضافة إلى انتقال الانقسام إلى الأوساط المجتمعية والمؤسسة العسكرية التي ظلت تمثل «بوتقة الانصهار القومي» منذ عام 1948م وحتى وقت ليس ببعيد.

ويكفي للدلالة على حالة الانقسام السياسي والمجتمعي التي تعانيها إسرائيل حاليا، أن نشير إلى مواقف النخبة والرأي العام الأسرائيليين تجاه مشروع قانون (الإصلاح القضائي) الذي تحاول حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة تمريره عبر «الكنيست» وهي المحاولات التي تقابل بمظاهرات رفض واسعة وغير مسبوقة في شوارع تل أبيب منذ شهر يناير 2023م.

«حالة العرب».. من الإدراك الحاسم إلى الخمول الحضارى

تمثل حالة العرب- كخصم أو عدو- في الوقت الراهن، وضعاً مثالياً لإسرائيل؛ لما تنطوي عليه هذه الحالة من خمول حضاري، وتشويش على الوعي والعقل العربي لاسيما تجاه ما يتصل بإسرائيل ومدى كونها عدو ـأو حتى مصدر تهديد للأمن القومي العربي.

فعلى مدار العقد الاخير الذي شهد ما بات يُعرف بـ «انتفاضات الربيع العربي»، تحقق لإسرائيل- بأقل تكلفة سياسية واستخياراتية ومالية- الجزء الأكبر من تصوراتها بشأن ما ينبغي أن تكون عليه حال غالبية الدول العربية – لاسيما الدول المركزية الثلاث: مصر وسورية والعراق بحسب ما خطط بن جوريون ورفاقه- من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني والمجتمعي داخلياً، وانعدام التوازن وضآلة التأثير خارجياً، وذلك كما هو الوضع حالياً بالنسبة لكل من: سورية، والعراق، فيما نجت مصر بأعجوبة من هذه الدوامة الاستراتيجية الكارثية.

فقد استغلت اسرائيل ضعف الخصم/العدو على مدار السنوات الأخيرة (2010- الآن)، من أجل الترويج لحجة باطلة مفادها أن اسرائيل ليست هي سبب عدم الاستقرار في المنطقة بل هناك أسباب داخلية في الدول العربية هي المسئولة عن ذلك.

وبالتالي، لم تعد تل أبيب في حاجة لمواصلة استراتيجية ( إضعاف الخصم عبر شد الأطراف وتفجير الداخل) كما كان الأمر على مدى عقود، حيث كان الإدراك العربي، سياسياً ومجتمعياً، سليماً وواضحاً وحاسماً بالنظر إلى إسرائيل كعدو مغتصب محتل، وأنها يجب أن تحترم الحقوق العربية كاملة دون نقصان إن أرادت العيش في المنطقة بسلام.

مستقبل إسرائيل بين «الحد الأقصى للتحمل» واستعادة الوعي العربي

تاسيساً على ما تقدم، نخلص إلى أن العوامل الخارجية الدولية والإقليمية لن تكون مواتية- على الأرجح- لإسرائيل في المستقبل المتوسط والبعيد؛ ومن ثم يبقى التأثير المحتمل الأكبر للعوامل الداخلية الخاصة بها من جهة، ولمقدار قوة أو ضعف العرب من جهة أخرى.

وعليه؛ فإن مستقبل إسرائيل ومدى بقائها زمنياً سيكون رهناً بمستوى ودرجة وتوقيت التفاعل بين هاتين المجموعتين من العوامل (حالة العرب، وحالة إسرائيل).

ونرى أن الأوفق والأجدر عملياً لنا كعرب، دولاً وشعوباً ومجتمعات، أن ننتهج استراتيجية ذات هدف مزدوج، يتمثل في: قلب حالة الاستكانة العربية الراهنة إلى قوة على المستويات كافة، وتكثيف الضغط على عوامل الضعف البنيوي الداخلي في إسرائيل.

ونحسب أن قطب الرحى في بلوغ هذا الهدف يكمن في العمل الجاد المستمر على استعادة الوعي الغائب، سواء الوعي بالذات أو الوعي بالآخر.

إذ أن إيقاظ الوعي بالذات، من شأنه استنهاض الهمم، وتحفيز العزيمة والإرادة، واستشعار مكامن القوة والعمل على تقويتها، وتلمس أوجه القصور والاجتهاد في معالجتها.

كما أن الوعي بالآخر (إسرائيل)، معرفياً ومعلوماتياً وإدراكياً، هو أمر بالغ الأهمية والخطورة في آن واحد معاً، من أجل مواصلة (الاشتباك الاستراتيجي والحضاري) معها، إذ بات الاشتباك العسكري خياراً باهظ الكلفة ومحدود النتائج وغير مرغوب دولياً كوسيلة لفض النزاعات ووضع حد للصراعات لاسيما ذات الأبعاد المتداخلة والقضايا المعقدة والتي تكون محلاً لأدوار قوى دولية وإقليمية عديدة وصاحبة مصالح متعارضة أو متنافسة على أقل تقدير، وهو الوصف الذي ينطبق بامتياز على حالة الصراع العربي-الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

ولعلنا لا نشطط في الفكر أو نجافي الحقيقة إن ذهبنا للقول بأن إحياء وتكريس الوعي العربي بإسرائيل – خاصة على المستوى المعرفي والإدراكي- بات بمثابة «فريضة استراتيجية» علينا؛ بالنظر إلى أن الرصد والتتبع والتعمق في دلالات التغيرات التي تطرأ على طرائق الوعي والتفكير لدى النخبة والمجتمع الإسرائيليين، ومضمون خطابهما السياسي، وماهية وأنواع الحجج التي يتضمنها هذا الخطاب، لاسيما فيما يتصل بقضايانا وحقوقنا العربية؛ سيكون من شأنه إمداد صانع القرار العربي بأطروحات متجددة حول عوامل الاستمرارية والتغير في الإدراك الإسرائيلي الرسمي والشعبي، كما أن من شأن ذلك تحصين الوعي المجتمعي العربي ، وبخاصة لدى الشباب والنشء، من «الغارات الفكرية» المضادة التي ما فتأت تطلقها إسرائيل من مختلف منصاتها الواقعية والافتراضية وبكل ما أوتيت من قوة.

إذ يُلاحظ كاتب هذه السطور أنه في الوقت الذي لدى النخبة الإسرائيلية على الأقل، حداً أدنى من الإلمام بالأوضاع الرسمية والمجتمعية في الدول العربية، نجد في المقابل غياباً واضحاً لمعرفة عربية مماثلة عن أوضاع الدولة والمجتمع في إسرائيل، باستثناء عن الجوانب الأمنية والعسكرية.

صفوة القول وخلاصته: أن قدرتنا كعرب على خوض وإدارة «حرب الوعي» الدائرة حالياً مع إسرائيل والمرشحة لأن تكون أكثر استمرارية وأشد ضراوة خلال السنوات المقبلة، ستكون هي المحدد الحاكم والحاسم في تحديد مستقبل إسرائيل.. فإن أحسنا الاستعداد وأتقنا العمل وبذلنا الجهد، أمكننا دفع إسرائيل إما إلى الانفجار الذاتي على غرار السيناريو السوفيتي، أو على أقل تقدير إجبارها على الرضوخ والقبول بإعادة الحقوق العربية المسلوبة منذ 75 عاماً، وفي مقدمتها الانسحاب من هضبة الجولان السورية، والتسليم عملياً بكافة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وغير القابلة للتصرف وفق قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1937م وحتى الآن. وأما إن تقاعسنا وركنا إلى الوعي المهزوم والواقع المأزوم، فإن البديل الآخر المحتوم هو إسرائيل في عمر الـ 750 سنة.. فالخيار لنا.. فهل نحن فاعلون؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى