رغم تنوع المهن التي مارسها أنبياء الله ورسله الكرام، مثل الزراعة، والرعي، والحرف اليدوية، إلا أنهم اجتمعوا جميعًا على أداء مهنة واحدة، وهي الإعلام، التي كانت الوسيلة الرئيسية لنشر الرسالة الإلهية وإيصالها إلى الناس.
فقد كانوا قادة للإصلاح، يخوضون الحوارات والمناظرات بحكمة ولباقة لنشر رسالتهم، مما ترك أثرًا بالغًا في مسيرة الحضارات الإنسانية، وكل ذلك تحقق من خلال دورهم الإعلامي البارز في تلك العصور.
وأيضًا، وصلت إلينا أخبار الحضارات القديمة، مثل الحضارة المصرية والصينية والبابلية، وما يتعلق بأحوال معيشتهم ومعارفهم، من خلال النقوش التي خُطَّت على الجدران والصخور، أو على الألواح الطينية. وهذا يُعدُّ أحد أشكال وسائل الإعلام المستخدمة في ذلك الوقت.
تكشف لنا تلك المقدمة عن الدور المحوري للإعلام في حياتنا. فالإعلام، بأشكاله المتعددة، ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو قوة مؤثرة تشكل الرأي العام وتساهم في بناء المجتمعات. فهو يساهم في تشكيل الوعي العام، وتعزيز الثقافة، والتأثير على الأفكار والمعتقدات والسلوكيات، ورفع مستوى الوعي بالقضايا المجتمعية.
وفي إطار جهودها لتطوير القطاع الإعلامي، أصدرت الدولة المصرية في الأسبوع الماضي عدة قرارات جمهورية هامة. فقد تم تكليف كفاءات مصرية متخصصة بتولي قيادة الهيئات الإعلامية.
حيث تم اختيار الأستاذ أحمد المسلماني لقيادة الهيئة الوطنية للإعلام، والمهندس خالد محمود عبد العزيز لرئاسة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والأستاذ عبد الصادق محمد الشوربجي لرئاسة الهيئة الوطنية للصحافة.
نتطلع أن تسهم هذه التشكيلات في تطوير دور الإعلام المصري وتعزيز مكانته في بناء مجتمع واعٍ متسلح بالمعرفة، في إطار معركة الوعي التي يخوضها كل فرد في مجاله. فالإعلام، بوصفه أداة فاعلة للتغيير والتطور، يمكن أن يكون درعًا يحمي هويتنا الوطنية ويصون مكتسباتنا.
فلنكن صرحاء مع أنفسنا: إن ضعف دور الإعلام المصري وتراجعه في الفترة السابقة قد أسهما بشكل كبير في خسارة العديد من معاركنا المجتمعية والثقافية، ولا سيما تلك المتعلقة بالهوية المصرية. فمن خلال تركيزه على القضايا الهامشية وتجاهله للقضايا الجوهرية، لعب الإعلام دورًا سلبيًا في تشكيل وعي المواطن، مما ساهم في انتشار عدة ظواهر سلبية، على رأسها الشعور بالدونية والانبهار بكل ما هو غير مصري.
الإعلام هو قوتنا الناعمة وسلاحنا الفكري في معركة الوعي لمواجهة التحديات التي تهدد هويتنا المصرية، لذلك، نأمل أن يلعب الإعلام المصري دورًا محوريًا في صون هويتنا وتراثنا، وبناء مجتمع واعٍ بقيمة حضارتنا وتاريخنا وثقافتنا. ففي ظل التغيرات المتسارعة، والهجمات الثقافية، والحروب الفكرية التي استهدفت عقل ووجدان المواطن المصري عبر محاولات الغزو الثقافي لطمس هويتنا، يصبح الإعلام بمثابة الحصن المنيع الذي يحمي تراثنا وثقافتنا وهويتنا من التلاشي.
وهنا يبرز تساؤل لا يمكن تجاهله: متى سنرى الإعلامي توفيق عكاشة مجددًا على شاشات التلفزيون المصري؟
فالحقيقة تفرض علينا الاعتراف بأن الإعلام المصري يفتقد بشدة لحضور الإعلامي توفيق عكاشة، نظرًا لتأثيره الفعّال على شريحة مهمة في المجتمع المصري، وهي شريحة العوام، كما يفضل البعض تسميتهم بهذا الوصف.
والواقع يشير إلى أن عكاشة كان الإعلامي الوحيد الذي نجح في ملء الفراغ الثقافي والتوعوي لهذه الشريحة، مما جعله علامة فارقة في المشهد الإعلامي
غيابه خلال الفترة الماضية دفع هذه الشريحة إلى استقاء وعيها من مصادر أخرى، بعضها يحمل توجهات معادية للدولة المصرية، بينما اختار البعض الآخر العزوف عن المتابعة الإعلامية تمامًا، احتجاجًا على الصورة النمطية التي يقدمها من يرون أنفسهم أوصياء على وعيهم.
حتى وإن اختلفنا أو اتفقنا على منهجيته وأسلوبه في خطابه الإعلامي، فإننا لا نستطيع إنكار نجاحه في اختيار أسلوبه المبسط، المفعم بالروح المصرية الأصيلة، لإيصال رسالته الإعلامية إلى جمهوره الواسع. وكما يقول المثل: “كل شيخ وله طريقته”، فقد تمكن الرجل بمنهجيته الخاصة من بناء قاعدة جماهيرية عريضة، شديدة الارتباط والتأثر بما كان يقدمه.
وعلى الجانب الآخر، أرى أن الإعلامي توفيق عكاشة يُعد من أكفأ وأمهر مقدمي برامج التحليل السياسي على شاشات التلفزيون المصري. فالحق يُقال إن الرجل يمتلك مخزونًا وافرًا من العلم والثقافة، بالإضافة إلى رؤية عميقة في مجالات علم الاجتماع السياسي، وتاريخ الأمم، والتنمية البشرية، وعلم الأنثروبولوجيا. وقد أثبتت الأيام صحة العديد من رؤاه وتحليلاته التي تنبأ بها من خلال برامجه الإعلامية.
أخيرًا، أحمل مشاعر استغراب وتساؤلات عميقة حول التهافت الكبير من شريحة واسعة من الشعب المصري على زيارة مطعم الشيف بوراك التركي. وهنا، لسنا بصدد تقييم جودة أو مذاق المأكولات التي يقدمها المطعم، فهذا ليس من اختصاصي، ولكن المحير في الأمر هو التهافت على ثقافة أخرى والتزاحم على أبواب حضارة بعيدة تمامًا عن هويتنا المصرية.
فالجميع يعلم أن الرجل لا يصنع بيده أيًا من المأكولات التي يتزاحم عليها المصريون، فهو مجرد مالك للمطعم مستغلا شهرته الواسعة داخل مجتمعات السوشيال ميديا. حيث أن بوراك علامة تجارية (براند) أكثر منه طاهٍ.
وأكرر مرة أخرى أنني لست ضد الشيف بوراك أو غيره، بل إننا دائمًا ندعم الاستثمار الأجنبي على أرض مصر، ونسعى لتحسين صورتها كوجهة جاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية. مرحبًا به وبأي مستثمر أجنبي يرغب في ضخ استثماراته في السوق المصري، خصوصًا في قطاع السياحة الترفيهية، الذي يُعد أحد أبرز عوامل تنشيط الحركة السياحية وأهم مصادر دعم الاقتصاد الوطني.
لكنه من منظوري كمتخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، أرى أن هذا الزخم، سواء حول أبواب مطعم الشيف بوراك أو الحماسة الكبيرة لمتابعة المسلسلات التركية على شاشات التلفزيون، ليس إلا تجسيدًا واضحًا لآفة الدونية التي أصابت عقل ووجدان المواطن المصري. هذه الآفة التي ناقشناها مرارًا وتكرارًا، وسنستمر في الحديث عنها حتى يتم التعامل معها بوعي حقيقي.
أتوقف هنا طويلًا عند نقطة الانبهار الزائد بكل ما هو ليس مصريًا، وهو ما يستدعي منا التأمل وإعادة التفكير في علاقتنا بهويتنا المصرية وقيمنا الثقافية، ومدى الدور المنتظر من إعلامنا في هذه الحرب الثقافية التي نخوضها.