نهدى كل كلمة في هذه المساحة الخاصة، لكل من لا يعرف حضارة وطنه، المنتسب لها ببطاقة الرقم القومي، اقرأوا وتبصروا لتعرفوا، كيف وثق الفراعنة الأخلاقيات والقيم، قبل التاريخ والأديان.
إلى محمد فؤاد وأمثاله، ومن يريد أن يعرف، حتى لا يسير في طريق هؤلاء.
برديات وصايا الحكم
منذ أكثر من 7 آلاف سنة كتب على إحدى البُرديات الفرعونية، نصيحة موجَّهة إلى الكتّاب وموظفي الدولة، تمتلئ بالوعظ والإرشاد، وكثير من الحكمة والرأفة، لا تصدر إلا من شخص رحيم القلب.
تقول الوصية: “لا تضرنّ رجلاً بجرّة قلم على بردية، ولا تستغلنّ قلمك في الباطل، لأنّ ذلك يمقته الله، ولا تؤدينّ شهادة كذباً، ولا تزحزحن إنساناً آخر بلسانك”.
الرحمة بالفقير
عرف الفراعنة مكارم الأخلاق، منذ آلاف السنين، ولم تزدهر حضارتهم، على الظلم والقهر، وتكوّن الوعي، حتى لدى كثير من المصريين أنفسهم، بأنّهم كانوا جبابرة قساة عتاة، إلا أنّ ما نقش على الجدران، واكتشفته الحفريات، يؤكّد عكس ذلك تماماً.
بتاح حتب حكيم الدولة القديمة يقدم نصائحه لابنه قائلاً: لا تجعل الناس تخافك وعاملهم بالرفق واللين.
كاتب هذه الوصية يدرك ما قد يتبع جرّة قلم لموظف في الدولة لحياة مواطن ومستقبله؛ بل يربط ذلك بالإله الذي يمقت ذلك الفعل.
ثم يعود لينهى عن فرض ضريبة على شخص فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، فيقول: “ولا تفرضنّ ضريبة على شخص لا يملك شيئاً، وإذا وجدت فقيراً عليه دين كبير، فقسِّمه إلى ثلاثة أقسام، سامحه في اثنين، وابقِ واحداً”.
راحة الضمير
ثم يعد هذا الحكيم رجالات الحكومة، بالمقابل المعنوي لتلك السياسة؛ وهو الخلود إلى منطقة راحة البال، والشعور بلذّة الحياة، دون تأنيب ضمير، أو أرق المضجع، فيقول: “وستجد ذلك سبيلاً للحياة وستضجع بالليل، وتنام نوماً عميقاً، وستهدأ، خير للإنسان مدح الناس وحبّهم له، من الثراء في المخازن، وخير للإنسان أكل الخبز مع قلب سعيد من الثراء على الكدَر”.
سجلت الآداب المصرية على صفحات البردي واللخاف بخطوطها التي عرفناها، الهيروغليفي الهيراطيقي، منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، والديمقراطي منذ القرن السابع قبل الميلاد، ثم القبطي منذ القرن الثاني للمسيح، وظلّت لغتها، على مدى آلاف طويلة من السنين، وحدة متّصلة في أساسها، ولكن مع تمايز خفيف وتطوّر يسير في نحوها وأساليبها وهجاء كلمتها، بين كلّ عصر وآخر من عصور تاريخها الطويل.
لم تكن الحكمة وقفاً على طبقة معينة من الناس دون الأخرى، وقد تلاقت سبلهم في ثلاث نواح؛ هي أنّ أغلبهم نسب نصائحه إلى خبرته الشخصية وتجارب أسلافه، مما نسبها إلى وحي السماء وأوامر الأرباب.
حبّ الزوجة
بتاح حتب، الذي كان وزيراً من القرن الخامس والعشرين ق.م، ومن أقدم أصحاب التعاليم، في سياق حديثه، صوّر لولده سبيل الاستقرار في الأسرة قائلاً له: “إذا أصبحت كفؤاً؛ كوّن أسرتك، وأحبب زوجتك، حدود العرف، أو عاملها بما تستحق، أشبع جوفها، واستر ظهرها، وعطّر بشرتها بالدهن العطِر؛ فالدهن ترياق لبدنها، وأسعدها ما حييت، فالمرأة حقل نافع لولي أمرها، ولا تتهمها عن سوء ظنّ وامتدحها تخبت شرّها، فإن نفرت راقبها واستمل قلبها بعطاياك تستقر في دارك، وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرّة في دارها”.
إنّه إيمان بأنّ الاستقرار الأسري مبني على الحبّ والمنح والعطاء، لم تكن الحكمة وقفاً على طبقة معينة من الناس دون الأخرى
الاستقرار الأسري
المصريون القدماء خبراء في العلاقة بين الجنسين، حريصون على أن ترتقي إلى الآفاق والأعالي: “إيّاك أن تبتر ساعة المتعة، فالنفس تأبى أن يفسد وقت متعتها، ولا تستنفد من شؤون اليوم أكثر مما يعول دارك، وكن سمح الوجه ما دمت حياً، فإنّ ما يخرج من الشونة لن يعود فيدخلها، ومن أطاع هواه انتهى إلى الثمن دون سواه”.
شارك بتاح حتب بعض شهرته في الدولة القديمة وزير آخر، ربما كان يدعى “كا ارسو”، كتب تعاليم لأولاده ولولده الأكبر، كايجمني، على وجه الخصوص، وكان من عظيم مقولاته، وهو يدعوه إلى أن يؤثر العمل على الكلام: “دع سمعتك تزكو وفمك صامت، تدعَ إلى أعلى المناصب”.
القناعة
وقوله وهو يدعوه إلى القناعة والتحكم في النفس: “إذا جالست قوماً فتعفف عن الطعام، ولو كنت تشتهيه، فإنّها برهة قصيرة تقهر الرغبة فيها وقد خسئ من شره جوفه، وإذا جالست نهماً فكل عندما تنتهي شهيته، وإذا شربت مع سكّير فشاركه حين يبلغ كفايته، فالمرء إذا برئ من ملامة الطعام لن تسوؤه كلمة”.
الزهد في الشهوات
إنّها تشبه المقولات الصوفية الزاهدة، الداعية إلى السيطرة على النفس، ولجم الشهوة، وإطلاق عنان العقل.
يدعو أمنموبي ابنه إلى احترام كبار السنّ: لا تسبّ من يكبرك سنّاً فإنّه قد شاهد نور الإله
يقول: إنّ “قدحاً من الماء يروي علة الظامئ، وملء الفم من حشائش الأرض يقيم أود القلب، وربّ حسنة تقوم مقام الخير كله، ونزر يسير يغني عن الكثير كلّه”.
ويريد الحكيم الأديب “آني”، من أهل القرن السادس عشر ق.م، أن يرشد ولده إلى مقومات السعادة في الأسرة فقال له: “لا تقسَ على زوجتك في دارها إن أدركت صلاحها، ولا تسألها عن شيء أين موضعه، إذا تخيّرت له وضعه الملائم، افتح عينيك وأنت صامت تدرك فضائلها، وإن شئت أن تسعد فاجعل يدك معها وعاونها، يجهل كثير من الناس كيف يمنع الإنسان أسباب الشقاق في داره، وقد لا يجد أحدهم مبرراً للنزاع فيعمل على خلقه، بينما يستطيع كلّ إنسان أن يوفر الاستقرار في داره إذا تحكّم سريعاً في نزعات نفسه”.
الزوجة الملكة
إنّه يدشّن لسيطرة الزوجة على بيتها، دون تدخّلات من الزوج، فهي ملكة المنزل، تضع فيه ما تشاء، وترتبه كما تشاء، ويأتي دور الزوج كمعاون ومساعد، ولا يتعدى دوره إلى التحكم والسيطرة على تفاصيل وشؤون المنزل، بل ويجب أن يعمل الزوج على كبح جماح تدخلاته، حتى تستقيم الأسرة وتستقر.
وفي العلاقة بين الإنسان وربّه؛ ينصح بالتأدّب مع الإله، وأن تتشكل العلاقة على المحبّة، لا القهر والخوف: “ادع بقلبٍ محبٍّ، ولا تجهر بصوتك، يستجب الإله لدعائك، ويسمع ما تقول، ويتقبّل قربانك”.
يأتي بعد ذلك أمنموبي، الموظف الأديب المتدين في فترة ما من القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد.
يقول لولده: “كن رصيناً في تفكيرك وثبّت فؤادك، ولا تتعود على أن تجدف بلسانك، ولا تفصلنّ فؤادك عن لسانك، تصبح مشروعاتك كلّها ناجحة، وثمة شيء آخر محبَّب إلى الربّ، وهو التروي قبل الكلام.
لا تخف من الغد
وعمل الأديب أمنموبي على أن يصرف ابنه عن التبرّم بالحياة، والتخوّف من المستقبل؛ “فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً”، كما جاء في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، فيقول هذا الأديب لابنه: “لا تقل إنّ اليوم أشبه بغد، فإلام ينتهي هذا؟ كلّا، فالغد آتٍ واليوم منقضٍ، وقد تصبح اللجّة الفائرة حافة للأمواج، ولا تقضّ الليل متخوفاً من الغد، قائلاً: عندما يطلع النهار، كيف يكون الغد؟ فما يعلم إنسان ما سيكون عليه الغد، والإله دائماً في فلاح (تدبيره) والإنسان دائماً في خيبة ظنونه”.
ويقول عن الغني والفقر: “ولا تتبرم بالفقر، فإنّ رامي السهام إذا اندفع إلى الأمام هجرته جنوده حين الخطر”.
يدعو أمنموبي إبنه إلى احترام كبار السنّ، ويعلّل ذلك بتعليل لطيف، قال فيه: “لا تسب من يكبرك سنّاً، فإنّه قد شاهد نور الإله، دعه يضربك إن شاء ويدكّ في خاصرتك، ودعه يسبّك إن شاء وأنت صامت”.
قيم العدل والرحمة
ويحذّر هذا الحكيم من النفاق، وقبول الرشوة، ويدعو إلى الرحمة بالفقير، ومحاولة إسعاده فيقول: “كن ثابتاً أمام غيرك من الناس، فالإنسان في مأمن في يد الربّ، والربّ يمقت من يزوّر في الكلام، وكبر مقتاً عنده النفاق، ولا تخصّص عنايتك لمن اكتسى بثوب قشيب، وتقبله في الأسمال، ولا تتقبل رشوة من صاحب نفوذ، أو تظلم مقصور اليد من أجله، فالعدل هبة غالية من الربّ، يهبها لمن يشاء، والربّ يحبّ إسعاد الفقير، أكثر مما يحبّ تعظيم النبيل”.
إنّ هذا الكاهن الحكيم في عين شمس، عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وذاق مرّ الحياة أكثر مما تذوّق حلوها، ولكنّه ظلّ مؤمناً صابراً، واختلط بأوساط مختلفة من عامة الناس وخاصّتهم.
يقول: “لا تلفّ كثيراً حتى لا تتوقف، ولا تتخم نفسك صغيراً حتى لا تترخى كبيراً، ولا توقد ناراً لا تستطيع إخمادها، ومن حزن مع أهل بلده فرح معهم، وأعطِ الشغّال رغيفاً تأخذ رغيفين من كتفيه، ولا تكره إنساناً لمجرد رؤيته ما دمت لا تعرف حقيقة خلقه، ولا تكره من يقول لك أنا أخوك، واعلم أنّ العزلة خير من أخ شرير”.
تجنب الغرور
وينصح الآباء بقوله: “تخيّر زوجاً عاقلاً لابنتك ولا تتخير لها زوجاً ثرياً”.
يقول الحكيم عنخ شاشنقي، عندما نعى ضياع الحقّ في بلده إلى رع في عبارات مؤثرة:
“إذا غضب رع على أرض نسي حاكمها العرف، إذا غضب رع على أرض عطّل القانون فيها، إذا غضب رع على أرض أبعد الطهر عنها، إذا غضب رع على أرض عطّل العدل فيها، إذا غضب رع على أرض رفع جهلتها وخفض عليتها، إذا غضب رع على أرض جعل أغبياءها فوق علمائها”.
أما بتاح حتب، حكيم الدولة القديمة، فيقدم نصائحه لابنه قائلاً: “لا تجعل الناس تخافك، وعاملهم بالرفق واللين”.
وينفر من غرور العلم قائلاً: “لا يداخلنك الغرور بسبب علمك، ولا تتعال وتنتفخ أوداجك لأنّك رجل عالم، استشر الجاهل كما تستشير العالم؛ لأنّه ما من أحد يستطيع الوصول إلى آخر حدود الفنّ، ولا يوجد الفنان الذي يبلغ الكمال في إجادته، والحديث الممتع أشدّ ندرة من الحجر الأخضر اللون، ومع ذلك فقد تجده لدى الطبقات الوضيعة”.
نصرة المظلوم
ويوجّه حديثه إلى رئيس ديوان المظالم قائلاً: “إذا كنت ممّن يقصدهم الناس ليقدموا شكواهم فكن رحيماً، عندما تستمتع إلى الشاكي، لا تعامله إلا بالحسنى حتى يفرغ مما في نفسه، وينتهي من قول ما أتى ليقوله لك، إنّ الشاكي يعطي أهمية لإراحة ذهنه، بالاستماع لشكواه أكثر من تحقيق ما أتى لأجله.
أما ذلك الذي ينهر صاحب الشكوى؛ فإنّ الناس يقولون عنه لماذا تجاهلها؟ وأيم الحقّ، إنّ ما يرجوه الناس منه لا يتحقق منه شيء، إنّ رفقك بالناس عند إصغائك للشكوى يفرح قلوبهم”.
أما أمنموبي فيقول: “لا تندفعنّ بقلبك وراء الثروة، إذ لا يمكن تجاهل الحظّ، ولا تجهدنّ نفسك في طلب المزيد، عندما تكون قد حصلت على حاجتك بالفعل؛ لأنّ الثروة لو أتت لك من طريق السرقة فإنّها لا تمكث معك سواد الليل، سترى مكانها لكنّها لن تكون هناك، لا تفرح من أجل ثروة أتت من طريق السرقة، ولا تئن من الفقر، فإنّ قارب الشره يعوقه الطين، وقارب الرجل الرزين يقلع مع النسيم، ويجب عليك أن تتعبد لله وقل امنحني السلام والصحة، وسيمنحك ما تحتاج من طول الحياة، وتأمن الخوف”.