fbpx
مقالات

مقال من غزة..

مكدسون كأكوام لحم في الخيام المتلاصقة كأفران حارقة.. أسقطت منا آدميتنا وانتزعت آلاف السنين من التطور والحضارة والمدنية، وأصبح يومنا يشبه يوم الإنسان البدائي الأول ولكن بدرجة أقل وأدنى وأكثر حقارة. يمتد من طلوع الشمس إلى مغيبها. لا كهرباء. ولا سهر.

 نبحث منذ الصباح عما كان يبحث عنه آدم وقابيل ليبقيا على قيد الحياة: الماء والكلأ والنار، الماء شحيح. بالكاد يكفي للشرب بعد ساعات من الزحام والطوابير، والكلأ هو ما تبقى من معلبات قديمة وقليلة رديئة الطعم والجودة، والنار يصعب الحصول عليها.. وصل ثمن أنبوبة الغاز إلى 500 دولار.

الإنسان البدائي الأول كان أفضل منا حالا، كان يجد أماكن كثيرة ليقضي فيها حاجته، أما هنا.. فالجميع  يتألم كثيرا، ويفكر كثيرا، وينتظر كثيرا، ويصطف طوابير طويلة قبل أن يقضيها على عجل.

وكان الإنسان البدائي الأول يجد ظلا من الحجر والكهوف الباردة.. أما نحن الآن فلا نجد إلا الخيام الضيقة التي تشبه الأفران المشتعلة في هذا الوقت.

كما كان لا يخاف إلا هجوم الحيوانات، وكان يتقي شرها، أما الغزي الآن فإنه في خيمته ينظر إلى الدبابات والطائرات المتوحشة بأزيزها في السماء، ولا يدري كيف تفعل به قنابـلها وحممها إذا ما قصفته، وجعلته هو وأطفاله أشلاء.

الإنسان البدائي الأول إذا ما جاع يصطاد طيرا أو غزالا، ويأكل لحمه.. أما الغزيون فمنذ أشهر لم يتذوقوا طعم اللحم الطازج، حتى أصابتهم الأمراض والإنهاك ونسوا اللحم وطعمه.

وكان الإنسان البدائي الأول بشرب من مياه الأنهار والشلالات والينابيع.. أما سكان الخيام فإنهم يكابدون العطش والزحام ليتحصلوا على شيء يسير من الماء. وقد لا يستطيعون الحصول عليه.

وكان الإنسان البدائي الأول يفكر كل يوم في تطوير حياته ونفسه وبيته وأسرته، ويسخر عناصر الطبيعة لخدمته… أما النازحون في غزة، فإنهم عاجزون عن التفكير أمام الخوف الذي يتهددهم بالموت كل لحظة، والفقر الذي ينهششهم، والخذلان الذي يحيط بهم، والشعور بالعجز الذي يستنفذ طاقتهم، ومشاهد التدمير المستمر الذي يجعل من غزة في نظرهم غير صالحة للحياة.

وكان الإنسان البدائي الأول يحقق خصوصيته، ويجد مساحات وأماكن واسعة للحركة والمشي والتنقل.. أما الغزيون فإنهم محشورون جميعا في شريط ساحلي ضيق.. ثم محشورون بعد ذلك في خيم ضيقة، ينامون مختنقين بأعداد كبيرة داخل الخيمة الواحدة.

ما أسعد حياة الإنسان البدائي الأول الذي كان يسكن الكهوف، أمام مأساة الغزيين اليوم الذي تخلى عنهم العالم، وتركهم للاحتلال يستفرد بهم في زنازين ضيقة وقاتلة اسمها الخيام.

مصدر المقال صفحة: Taysir Abdalla

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى