fbpx
مقالات

د. علاء جراد يكتب: جائزة مليم الملح

تنتشر في كل مجتمع أمثال شعبية تختزل حكماً وخبرات، وغالباً ما تعكس رؤى عميقة وملاحظات ذكية عن حياتنا اليومية في موروثنا الشعبي. مثل شعبي يحضرني دائماً وهو “بنبوظ الطبخة علشان مليم ملح” هو واحد من تلك الأمثال التي تبرز مشكلة قد تكون بسيطة في ظاهرها لكنها جوهرية في واقعنا، وتشير إلى مشكلة أعمق في تنفيذ المشاريع والخدمات.

إن الاستثمار الكبير في مشروع ما ثم تجاهل التفاصيل الصغيرة قد يفسد التجربة بأكملها.
تخيل معي تنظيم مؤتمر دولي ضخم، يُنفق عليه عشرات الملايين، يستقطب أكثر من 35 ألف مشارك من مختلف أنحاء العالم، وفي النهاية لا يتم توفير أي مشروبات أو مأكولات خفيفة للحضور، بالرغم من أن المؤتمر مقام في منطقة جديدة لا يوجد بها بعد خدمات قريبة.

مثل هذه الثغرة البسيطة في عين البعض تترك انطباعاً سلبياً لا يُمحى، وتُثير تساؤلات: كيف لم يُؤخذ هذا الأمر في الاعتبار، بالرغم من ضخامة الاستثمار.

مثالاً آخر من حياتنا اليومية، انشاء ممرات للكراسي المتحركة في أحد المباني الكبرى لتسهيل التنقل لذوي الاحتياجات الخاصة، لكن بداية الممرات مرتفعة عن الأرض بشكل يجعل الشخص بحاجة لمن يساعده في رفع الكرسي للوصول إليه! إن الفكرة في جوهرها عظيمة وضرورية، ولكن التنفيذ يعكس مشكلة “مليم الملح” حيث لا يتم إتمام العمل للنهاية.

لننتقل إلى خدمات الشهر العقاري، التي تُعد تطوراً كبيراً يسهل على المواطن إنهاء معاملاته في فروع منتشرة على مستوى الجمهورية، وبعضها يستمر مفتوحاً للجمهور حتى التاسعة مساءً.

هذه الخدمة تعتبر بحد ذاتها إنجازاً، لكنها أيضاً تعاني من معضلة “مليم الملح” فالموظفون واضح أنهم غير مدربين بشكل كافٍ على التعامل مع الجمهور، وأحياناً يُطلب منك تصوير بطاقة الرقم القومي في وقت لا تتوفر فيه خدمات تصوير قريبة! المشكلة هنا ليست في توفير الخدمة بل في ضمان تجربة متكاملة للمستخدم.

لو كان الأمر بيدي، لأسست جائزة أطلقت عليها “جائزة مليم الملح”، تُمنح للجهات أو الشركات التي لا تكتمل خدماتها على الوجه الأكمل، فتترك فجوات بسيطة ولكنها مؤثرة.

إن مثل هذه الجائزة ستكون دعوة لمراجعة الأمور الصغيرة، التي رغم بساطتها قد تكون قادرة على صنع الفارق الكبير في انطباع الناس وجودة الخدمة.

إن إتمام الأمور للنهاية ليس رفاهية، بل ضرورة، ومعالجة “مليم الملح” في مشاريعنا وخدماتنا ينعكس إيجاباً على تجربة الجميع، ويعزز شعور الناس بأن تفاصيل احتياجاتهم يتم الاهتمام بها.

إن مشكلة “مليم الملح” لا تقتصر على أمثلة بسيطة أو مواقف عابرة، بل تُعتبر رمزاً يعكس جوانب أعمق تتعلق بقيم الإتقان والمسؤولية والضمير في كل ما نقوم به.

وكما جاء في الحديث الشريف: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، فإن الله عز وجل يثني على من يعمل بإخلاص ويعتني بإتمام عمله بإحسان وإتقان، دون ترك ثغرات أو إغفال للتفاصيل، حتى وإن بدت بسيطة أو غير ذات أهمية.

في عالمنا اليوم، نجد أن التفاصيل الصغيرة، التي يظن البعض أنها لا تؤثر، قد تكون هي السبب الرئيسي في رضا العميل أو انزعاجه، في نجاح تجربة أو إحباطها، وفي توصيل رسالة إيجابية أو أخرى محبطة.

فعلى سبيل المثال، تجاهل توفير مكان لتصوير المستندات في فروع الشهر العقاري ليس مجرد خطأ، بل تجربة غير مكتملة، تدفع الناس للشعور بعدم التقدير الكامل لوقتهم وجهدهم.

وبالعودة إلى مثال المؤتمر الضخم الذي لم تُوفر فيه وجبات خفيفة أو مشروبات، سنجد أن غياب تلك التفاصيل أدى إلى إزعاج المشاركين وترك لديهم انطباعاً سلبياً رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت والإمكانات الضخمة التي وُضعت في التنظيم.

كان من الممكن تفادي هذا الازعاج بمجرد الانتباه إلى هذه الجزئية التي قد تكون صغيرة في عين المنظمين لكنها محورية من منظور الحاضرين.

لو أدركنا حقاً أهمية إتقان العمل وأهمية التفاصيل في صنع الفارق، لوجدنا أن العديد من مشكلاتنا اليومية ستتلاشى ببساطة.

قد نقضي على إحباط الناس من تجاربهم، ونحولها إلى تجارب مُرضية تترك أثراً إيجابياً في نفوسهم، وتجعلهم يثقون أكثر في المؤسسات والخدمات.

لنجعل شعارنا “الإتقان في العمل”، ولنجتهد في إتمامه على أفضل وجه، كما يحب الله ويرضى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى