عصر ما بعد الحقيقة
كيف وصلنا إلى عصر ما بعد الحقيقة، عندما تحل “الاشاعة” محل الحقائق، وتكون للمشاعر وزن أكبر من الأدلة.
هل نحن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة؟ كيف وصلنا إلى هنا؟
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يتتبع تطور ظاهرة ما بعد الحقيقة من إنكار العلم إلى ظهور “الأخبار المزيفة”، من النقاط العمياء النفسية إلى تراجع الجمهور إلى “صوامع المعلومات”.
في سنة 2016 اختار معجم أكسفورد كلمة Post-Truth (ما بعد الحقيقة) ككلمة العام، وهو تقليد سنوي يقوم فيه المُعجم باختيار الكلمة الأكثر تداولا وتأثيرًا على مدار العام. وعرَّفها بأنها «مصطلح يُشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، مقارنة بتأثير الميول والعواطف والمعتقدات الشخصية».
وكان أول من استخدم مصطلح “ما بعد الحقيقة” في سياقه المعاصر هو الكاتب المسرحي الأمريكي الصربي ستيف تيسيتش Steve Tesich في مقال له نُشر سنة 1992 تحت عنوان “حكومة الأكاذيب A Government of Lies “، وفيه انتقد المجتمع الأمريكي الخاضع لأكاذيب إدارة “بوش الأب” George Herbert Walker Bush، وقراره الواعي بالعيش في عالم ما بعد الحقيقة، العالم الذي لم تعد فيه الحقيقة مهمة أو ذات صلة بالحياة العامة.
كذلك استخدم الكاتب الأمريكي رالف كيز Ralph Keyes المصطلح ذاته سنة 2004 في عنوان كتابه “عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة المعاصرة” The Post-Truth Era: Dishonesty and Deception in Contemporary Life، الذي ذهب فيه إلى أننا نعيش عصر الأكاذيب النبيلة التي يمكن تعديلها وتنقيحها وتهذيبها لتتوافق مع الوضع الراهن الذي يستلزم اغتيال الحقيقة من أجل مصلحة الشعب، حيث لم يعد الخط الفاصل بين الحقيقة والكذب واضحًا ومتميزًا،
بل لقد أصبح خداع الآخرين تحديًا مرغوبًا، أو بالأحرى لُعبة يتنافس الجميع على ممارستها بهدف التلاعب بالعقول وتنميطها! فقط في سنة 2016، وعلى خلفية الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستفتاء المملكة المتحدة حول الخروج من الاتحاد الأوربي (بريكست Brexit)، انتشر المصطلح الجديد والغامض واكتسب زخمًا واسع النطاق.
ومع تطور التقنيات الإعلامية وتكنولوجيا الاتصالات بات من السهل القفز من مرحلة ما قبل الحقيقة Pre-Truth حيث تكون الحقيقة في طور التشكل للخروج من القوة إلى الفعل، إلى مرحلة ما بعد الحقيقة (حيث السراب المعلوماتي وضبابية الوعي!).
فرض تنامي الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار مع غياب الثقة بالأخبار المقدّمة من المصادر الرسمية فرض واقعاً جديداً في تعامل الناس مع الحقائق، لم تعد معه الكذبة إشاعة ترمى في الأسواق بل أصبحت صناعة، وباتت المعلومات الأكثر تأثيراً هي الرسائل شديدة الاختصار عبارة عن تغريدات تتضمن محتوى مباشر وشديد الوضوح لا يتطلب من الشخص جهداً في استقصاء المعاني والمضامين، أو قراءة نصوص مطولة تتسم بالتعقيد أو تعدد المصادر.
تحولت الاشاعة إلى صناعة كاملة قد تحل ذات يوم محل الحقائق برمتها، وتجند الدول وفقاً لأحجامها آلاف الخبراء لمقاومة هذا التزوير، أو لصناعة تزوير مضاد، إضافة إلى أنه لا رقابة ولا نظام ولا مسؤوليات أو ضوابط عند ملايين المشاركين في مواقع التواصل. والناس تحب أن تصدق الاشاعات والاكاذيب خاصة إذا تناولت خصومها أو إذا دغدغت حاسة الشماتة ولذة التشفي عندها،
في عصر ما بعد الحقيقة واعتماد التضليل والخداع أصبحت التغريدات “Tweets” هي النمط الأمثل لتداول المعلومات، والتأثير في توجهات الجمهور ووجهات نظره، وتراجعت أهمية الكتاب، والمقالات المطولة، والدراسات الأكاديمية والأبحاث والبرامج المختلفة، هذا العصر دفع بعقولنا الى الهرولة وراء التغريدات والمنشورات القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، لم نعد نصبر على قراءة جملة طويلة، ناهيك بكتاب أو بحث أو دراسة، أو أي معلومة مركبة أو معقدة، قليلون أولئك الذين يقدرون أن يصنعوا لأنفسهم فكرة أو يصبرون على التفكير!
عصر ما بعد الحقيقة، عصر التضليل والخداع الإعلامي والإداري نعيشه على واقع ما فوق المزيف وأكثر من الخداع وما وراء الإمعان في الكذب تسهم فيه ثورة الاتصالات الحديثة ووسائل إعلام وتواصل يفترض معها أن تكون عناصر مساعدة في تبليغ الحقائق طريّة وطازجة وطبق الأصل إلى الجمهور، وليس نقيضا كما يحدث حاليا.
مصطلح ما بعد الحقيقة مصطلح بات يعبر عن الأزمة التي نعيشها وواقعنا الذي نحيا، أزمة عمادها تراجع دور الحقيقة، وانتشار الاشاعات والكذب والتضليل وسيطرة الخطابات الشعبوية والوعود المتكئة على تأجيج العواطف والمخاوف لدي الجماهير، والاندماج في العالم الافتراضي والاتصال الدائم للأفراد بالإنترنت، والانخراط الكامل في وسائل التواصل الاجتماعي وتراجع القدرة التحليلية والادراكية على التعامل النقدي مع المعلومات بسبب الاعتماد الكامل على المجال الافتراضي والاستسلام لتكنولوجيا المعلومات، وهو ما أدى لتراجع المعرفة بأبسط القضايا.
الفرق بين الكذب وما بعد الحقيقة
الفرق الرئيس بين مفهوم “الكذب” ومفهوم “ما بعد الحقيقة”، فالكذب يُفسد حقيقة بعينها، أما “ما بعد الحقيقة” يشير إلى أن الحقيقة لم تعد ضرورية، وأنها قد عفا عليها الزمن!