شحاتة زكريا يكتب: الاقتصاد الدائري.. ليس مجرد توجه عابر
في عالم يتزايد فيه الاهتمام بالاستدامة تظهر فكرة الاقتصاد الدائري كنموذج اقتصادي ثوري يهدف إلى إعادة تصميم أساليب الإنتاج والاستهلاك، ويشكل الاقتصاد الدائري بديلا عن النموذج التقليدي القائم على استغلال الموارد الطبيعية، ثم التخلص من المخلفات بطرق تؤثر سلبا على البيئة.
هذا التحول ليس مجرد خيار اقتصادي؛ بل هو ضرورة تفرضها الظروف البيئية الحالية حيث يواجه العالم اليوم أزمة موارد متنامية، ونسبا مرتفعة من التلوث وتغيرات مناخية تشكل تهديدا جسيما لمستقبل البشرية.
الاقتصاد الدائري يسعى إلى إيجاد حل جذري لمشاكل الاستهلاك والإنتاج عبر تبني منهجية تضمن الاستفادة القصوى من الموارد وتقليل الهدر.
يتمحور هذا النموذج حول تصميم المنتجات بحيث يمكن إعادة استخدامها وإصلاحها، وتجديدها، وتدويرها، لتظل جزءا من الدورة الاقتصادية لفترات أطول
هذه الفلسفة تعزز من قدرة الاقتصادات على تحقيق الاكتفاء الذاتي والمرونة في مواجهة التغيرات العالمية وتخفف من الاعتماد المفرط على المواد الخام التي تستنزف الأرض، مما يعني توفير مستقبل بيئي أفضل للأجيال القادمة.
في العديد من الدول المتقدمة بات الاقتصاد الدائري جزءا أساسيا من السياسات الحكومية.
ففي أوروبا على سبيل المثال يتجه الاتحاد الأوروبي نحو وضع تشريعات وسياسات تحفز الشركات على اعتماد استراتيجيات دائرية في إنتاجها وتوفير التمويل اللازم لتطوير التكنولوجيا المستدامة.
وتشير الدراسات إلى أن الاقتصاد الدائري يمكن أن يُسهم في خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة تصل إلى 50% بحلول عام 2050 ما يجعل منه أداة حيوية لمكافحة التغير المناخي.
هذا التحول لا يُعد انتصارا للبيئة فحسب بل يحقق أيضا مكاسب اقتصادية عبر توفير فرص عمل جديدة في قطاعات مختلفة، كالصناعات التحويلية، والبحث والتطوير، وإدارة النفايات.
أما في الوطن العربي فيبرز الاقتصاد الدائري كفرصة واعدة للاستفادة من الإمكانات المحلية في تحويل المخلفات إلى موارد ذات قيمة مضافة.
هذا النموذج يمكن أن يدعم بشكل مباشر الاقتصاد الوطني من خلال تحفيز الابتكار المحلي وإنشاء صناعات جديدة قائمة على إعادة التدوير وهو ما يُمكن الدول العربية من مواجهة التحديات الاقتصادية بطرق غير تقليدية.
فمخلفات الزراعة والصناعة يمكن تحويلها إلى مواد تستخدم في الصناعات الأخرى مما يسهم في تعزيز الصناعة المحلية وتطوير التكنولوجيا الخاصة بالتدوير والإنتاج المستدام.
ورغم الفرص التي يوفرها الاقتصاد الدائري، إلا أن التحديات التي تواجه تطبيقه ليست بسيطة.
تحقيق تحول اقتصادي بهذه الدرجة من العمق يحتاج إلى تغيير ثقافي كبير وتعاون من مختلف الأطراف، هنا يأتي دور الحكومات التي يجب عليها أن تسن القوانين والسياسات التي تُحفز الشركات والأفراد على تبني نموذج الاقتصاد الدائري.
فبدلا من مجرد فرض ضرائب على المخلفات يمكن تشجيع الشركات على الاستثمار في الابتكار لإعادة تدوير المنتجات القديمة أو استخدام المواد المتجددة في عمليات الإنتاج.
كما يجب أن تساهم مؤسسات التعليم في رفع الوعي حول فوائد الاقتصاد الدائري عبر إدراج هذا المفهوم في المناهج الدراسية والتأكيد على أهميته كحل مستدام للمشاكل البيئية.
وبالإضافة إلى ذلك هناك حاجة ماسة للاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة لتطبيق هذا النموذج. يجب أن تعمل الدول على توفير المرافق الحديثة التي تسهل عمليات التدوير، مثل محطات فرز النفايات المتطورة ، ومنشآت إعادة التدوير التي تعتمد على تقنيات حديثة فضلا عن تكنولوجيا التتبع الرقمي التي تساعد على متابعة دورة حياة المنتجات. مثل هذه البنية التحتية تُعد جزءا أساسيا من تحول الاقتصاد إلى نموذج دائري وتزيد من جاذبية هذا التوجه للشركات المحلية والعالمية التي تبحث عن بيئة استثمارية مستدامة.
أما على مستوى الأفراد فإن الانتقال إلى الاقتصاد الدائري يتطلب أيضا وعيا مجتمعيا جديدا وثقافة استهلاكية مسؤولة. إذ يجب أن يدرك المستهلكون أن شراء المنتجات المستدامة والمعاد تدويرها ليس مجرد خيار صديق للبيئة، بل هو مساهمة مباشرة في بناء مجتمع اقتصادي متين ومستدام. كما أن تبني عادات إعادة التدوير والتقليل من استهلاك المواد غير الضرورية ، وشراء المنتجات القابلة لإعادة الاستخدام يمكن أن يجعل من الاقتصاد الدائري أسلوب حياة وليس مجرد مفهوم نظري.
ختاما يمكن القول إن الاقتصاد الدائري ليس مجرد توجه اقتصادي عابر بل هو رؤية مستقبلية تمهد الطريق نحو اقتصاد متجدد ومستدام يعزز من قدرة الدول على مواجهة التحديات البيئية والاقتصادية على حد سواء. في هذا النموذج، يتحول “النفايات” إلى فرص ويصبح “الاستهلاك” أكثر وعيا وتتكاتف جميع الجهود لتحقيق التنمية المستدامة التي تضمن للأجيال القادمة عالما أكثر استدامة وصحة.