كل شيء عن رئيس المخابرات التركية الجديد: إبراهيم كالن.. ماذا يفعل فيلسوف في مخابرات أردوغان؟
تحليل خاص من سوريا – أشرف التهامى
قلما تجد سياسياً يجيد العزف والغناء في العالم الحديث، وهي موهبة تحتاج المثابرة للحفاظ عليها، إبراهيم كالن رئيس المخابرات التركية الجديد لديه تفسير لذلك.
يرى كالن أن كثيرا من الملوك والسلاطين القدماء كان لديهم، مهن أو مواهب يفضلونها، يملؤون بها أرواحهم، مثل النجارة والنحت أو الرسم أو الغناء، حتى الأنبياء كان لكل واحد منهم مهنة يعيش منها، تعطيهم بعداً إنسانياً.
يخالف كالن من يجعل القراءة بأوقات الفراغ، قائلاً: “بل يجب أن يكون لها أوقات كاملة ومخصصة، لأهميتها”.
أما الموسيقى فهي غذاء للروح إذ بدأ بالتعلم على آلة الجيتار في المرحلة الإعدادية، وعزف عليها لفترة طويلة، ثم أحب تجربة العزف على البزق أو (الباجلاما بالتركية)، إلى أن زاد اهتمامه بالموسيقا الشعبية مع محافظته على علاقة وثيقة بالأنواع الموسيقية الأخرى مثل الموسيقى الكلاسيكية الغربية وخاصة موسيقى (باخ وفيفالدي)، وكذلك الحال مع موسيقى الجاز.
الولع المخابراتي بالموسيقى
ومن خلال حديثه عن الموسيقى تظهر خبرة كالن، كواحد من متذوقي الموسيقى وليس فقط أحد العازفين، إذ لديه فلسفة وقراءة للحالات الموسيقية الغربية والشرقية مع تقسيماتها التركية والفارسية والهندية وحتى العربية.
ولعل المفاجئ في قصة كالن أنه ليس عازفا ومهتما بالتصوير الفوتوغرافي فقط، بل لديه ألبومات غنائية مصورة، معظمها من كلماته وألحانه، وقدم العديد من الحفلات الغنائية أيضاً.
رئيس المخابرات التركية مغني
ومن أبرز أغانيه التي حازت مشاهدات بالملايين: “لم أكن أبداً (Hiç Oldum)، أنت لي وأنا لك Sen Benimsin Ben) Seninim)، مهجور (Metruk)، وغيرها.
لم يكن إبراهيم كالن الذي ولد في حي كاديكوي بإسطنبول عام 1971، يتخيل أن يكون أحد أبرز الشخصيات السياسية في تركيا، وعلى صلة وثيقة بالرئيس رجب طيب أردوغان، علاوة على رئاسته لوكالة الاستخبارات الوطنية.
أبن أسرة غير متعلمة
تعود أصول كالن لولاية أرضروم شمال شرقي تركيا، لعائلة متوسطة وغير متعلمة على مستوى عالٍ، كان والده يعمل في تجارة الخضراوات والفواكه، وأمه ربة منزل، وفي عمر الـ 14 فقد والدته ما أثّر على تكوين شخصيته الهادئة.
تعرّف إلى عالم القراءة في وقت مبكر، ما نقله لمستوى جديد، إذ بدأ بشراء كتب سميكة كان أبرزها كتب “أورجانون لأرسطو” (وهي مجموعة أرسطو عن المنطق) في المرحلة الثانوية.
وجاهد نفسه كثيراً لفهمها بتلك المرحلة المبكرة من عمره، إلا أنه كان يعيش متعة كبيرة جداً حمل معه كثيرا منها إلى يومنا الحالي.
كان محباً للتاريخ بشكل كبير، وهو ما دفعه لاختياره كتخصص جامعي في كلية الآداب بجامعة إسطنبول العريقة.
أكمل درجة الماجستير في الفكر الإسلامي والفلسفة في ماليزيا، حيث كانت فكرة التعرف إلى دول جنوب شرقي آسيا، خاصة أنها دولة مسلمة وتضم إلى جانب المسلمين، الصينيين والهنود، ما أعطاه تنوعاً معرفياً واكتشافاً لعالم آخر جديد.
الماجستير من أسيا المسلمة والدكتوراة من أمريكا
بعد ذلك اتجه إلى الغرب، وخصيصاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليحصل على الدكتوراة في العلوم الإنسانية والفلسفة المقارنة في جامعة جورج واشنطن عام 2002، وكانت أطروحته بعنوان “نظرية المعرفة للملا صدرا (وملا صدرا هو صدر الدين الشيرازي والمعروف بصدر المتألهين، حكيم وفيلسوف مسلم شيعي إثنا عشري، ولد أواخر القرن العاشر الهجري في شيراز بإيران، وهو مؤسس مدرسة الحكمة بنظريته الأساسية أصالة الوجود).
في مطلع القرن الجاري بدأت حياة إبراهيم كالن الأكاديمية رسمياً، وكان يطمح لأن يكون أستاذاً جامعياً ناشراً للمعرفة على شكل بسيط وهادئ، تزامن ذلك مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
في تلك الفترة بدأ بإجراء بحوث أكاديمية في مركز الدراسات الإسلامية التابع لرئاسة الشؤون الدينية، وعمل أستاذاً زائراً في كلية الصليب المقدس بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة.
كما ألقى محاضرات في الفكر الإسلامي والعلاقات بين الإسلام والغرب في جامعة بلكنت بأنقرة، إلى جانب اهتمامه بالترجمة، ترجم كالن “فكرة الوجود في الإسلام” للكاتب توشيهيكو إيزوتسو، وكتاب الطريقة النقشبندية من الطريق الدرقاوية لمولاي محمد العربي الدرقاوي، وكتاب شيخ المؤرخين الأتراك خليل إنالجيك “إسطنبول: مدينة إسلامية” إلى اللغة التركية.
كيف يكون أكاديميا رئيس مخابرات؟
السؤال الطبيعي، لماذا يختار الرئيس شخصية أكاديمية بيروقراطية أقرب للمجال الفكري والثقافي، رئيساً لوكالة أمنية ومنخرطة في عمليات استخبارية واسعة، حققت نجاحات كبيرة خلال العقدين الماضيين، خصوصاً برئاسة حقان فيدان الذي كان سبباً أساسياً مع فريقه بإفشال محاولة الانقلاب العسكري عام 2016.
لماذا لم يكن الرئيس الجديد من خلفية أمنية أو عسكرية مثلاً أو أحد أعضاء فريق فيدان السابق؟
قد لا يملك الجواب الدقيق على هذا السؤال سوى الرئيس نفسه، باعتبار أن كالن كان أحد بيوت أسراره المقربين، ولا يختلف كثيراً عن هاكان فيدان، سوى أن الأخير في منصب تنفيذي مباشر أكثر مما هو استشاري.
صحيح أن كالن من خلفية أكاديمية، وأكثر قرباً من التاريخ والفلسفة منه إلى السياسة، إلا أن إلمامه الكامل بالوضع السياسي والأمني والقانون الدولي عبر خبرة تراكمية قد تؤهله ليكون على رأس الوكالة المخابراتية وسط كثير من التحديات.
السيرة الذاتية الملفتة
الأهم من ذلك أن سيرته الذاتية لافتة للنظر وليست أكاديمية جامدة، فهو على درجة عالية من الثقافة، رافق الرئيس في كل جولاته تقريباً، وهو المتحدث الرسمي باسم قصر الرئاسة والناطق باسم الرئيس شخصياً، ما يعني أن كل كلمة يقولها محسوبة على أردوغان.
ولدى كالن إطلاع مباشر على جميع الملفات الأمنية الحساسة، حيث عُين متحدثاً باسم أردوغان في عام 2014 بمرتبة سفير، ثم كبيراً لمستشاري الرئيس أردوغان، ونائباً لرئيس مجلس الأمن والسياسات الخارجية في رئاسة الجمهورية اعتباراً من عام 2018.
كان أول لقاء مباشر مع رئيس الوزراء التركي أردوغان عام 2004، حيث طلب منه برفقة عدد من الأكاديميين تأسيس مركز أبحاث أكاديمي يدعم مجلس الوزراء في خطط وسياسيات وقراءات سياسية واقتصادية واجتماعية كمؤسسة وقفية مستقلة، وفي العام نفسه تم تأسيس مركز “سيتا”، وأحيل لكالن مهمة المنسق العام للمركز.
بقي يرأس المركز لمدة 5 سنوات تقريباً، عمل المركز خلالها على إنتاج معلومات في مجالات مثل: السياسة الداخلية، والسياسة الخارجية، والاقتصاد، والمجتمع والإعلام، والقانون وحقوق الإنسان، والدراسات الأمنية، والاستراتيجية، والسياسات التعليمية والاجتماعية، والدراسات الأوروبية، وأبحاث الطاقة .
وتقديم صيغ وحلول قادرة على التعامل مع المشكلات للحكومة، وبعد سنوات تمكن المركز من التوسع بفروعه في أنقرة وإسطنبول وواشنطن وبرلين وبروكسل ووصولاً إلى القاهرة.
صدر كتابه “الإسلام والغرب” عام 2007، نال عمله إعجاب النقاد، وحصل على جائزة اتحاد الكتاب الأتراك لأفضل كتاب.
مؤلفاته
ساهم كالن مع مؤسسة ماكميلان للنشر (إحدى أكبر خمس دور نشر بالإنكليزية في العالم) في تأليف موسوعات مثل موسوعة الفلسفة وموسوعة الدين وقاموس أكسفورد للإسلام.
وألف كالن بالاشتراك مع جون إسبوزيتو، كتاب “الإسلاموفوبيا وتحدي التعددية في القرن الـ21 (مطبعة جامعة أكسفورد، 2011).
وفي عام 2014 أعاد نشاطه الفكري في كتابه الذي حمل عنوان “العقل والفضيلة- الخيال الاجتماعي لتركيا”، و”مقدمة إلى أنا والآخر – في تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب” في 2016 (ترجم إلى العربية عام 2021)، وأصدر كتابه “بربري.. عصري.. متحضر” عام 2019 (وترجم للعربية عام 2021 أيضاً)، إلى جانب كتب أخرى.
ورغم الوقت القليل الذي يملكه العامل في المجال العام، وخصوصاً في رئاسة الجمهورية، إلا أن إبراهيم كالن حافظ لدرجة كبيرة على أطروحاته الأكاديمية واستمر بالتأليف.
عُين في عام 2011 عضو مجلس أمناء جامعة أحمد يوسفي، وبدأ بإلقاء محاضرات لطلاب الدراسات العليا في مجال الفلسفة الإسلامية في جامعة ابن خلدون بإسطنبول عام 2019، ما أهله للحصول على لقب “برفسور” في 2020.
ويرى أن العمل في التدريس سبيل أساسي للتعلم، لإبقاء الذهن متقداً، خصوصاً مع فئة الشباب، وهي زكاة علم، لا يمكن أن تتوقف ولا يوجد أي عذر لتاركها. ما دام لدى الإنسان علم فعليه أن يعلم.
في عام 2009، اختاره رئيس الوزراء أردوغان مستشاراً رئيسياً للسياسة الخارجية، ثم عينه أول منسق للدبلوماسية برئاسة الوزراء عام 2010، وفي 2012 تولى منصب نائب أمين رئاسة الوزراء.
مع انتخاب أردوغان أول رئيس بشكل مباشر عام 2014، عينه نائب الأمين العام لرئاسة الجمهورية والمتحدث باسمه برتبه سفير.
في عام 2018 دخل النظام الرئاسي حيز التنفيذ فأوكل إليه الرئيس منصب نائب رئيس مجلس الأمن والسياسات الخارجية بالرئاسة، مع احتفاظه بمهمة كبير المستشارين.
وفي يوينو 2023، صدر مرسوم رئاسي بتعيين إبراهيم كالن رئيساً لوكالة الاستخبارات الوطنية، في وظيفة تحمل من التحديات الكثير.
كان كالن في صحبة الرئيس على مدار 14 عاماً، ويعرف تماماً نطاق الأفكار السياسة التي يؤمن بها أردوغان، وعلى إلمام بمشروعه فهل ينجح في المنصب؟ الوضع السياسي ومستقبل تركيا والمنطقة كفيل وحده بالإجابة.
ويبقى السؤال الأهم
هل ستتأثر المخابرات التركية بهدوء وطبيعة كالن الثقافية الفلسفية المنطقية المتأثرة بالحضارة الإسلامية ودول المشرق ام سيكون أداة طيعة في يد أردوغان لتحقيق شيء ما لا يريد طبخه في المطبخ الرئاسي و بنكهة أردوغانية خالصة من المتوقع في أن تزهد عما حاربت وناطحت من أجل تحقيقه في الفترات السابقة من حكمه.