fbpx
تقاريرسلايدر

حادثة “ماجديبورج” وضبابية بوصلة تهمة الإرهاب!

إعداد: أحمد التلاوي

ربما تكون حادثة الدهس التي وقعت في سوق عيد الميلاد في مدينة ماجديبورج الألمانية بولاية ساكسونيا، واحدة من أغرب الحوادث التي وقعت من هذا النوع في أوروبا في السنوات الماضية.

ففي كل الحوادث السابقة تقريبًا، يكون المتهَم أو المتهَمون إما أعضاء في خلايا تابعة لتنظيميات دينية متشددة، مُصَنَّفة إرهابية، أو لهم ذات الانتماء الأيديولوجي الذي تتبناه هذه الجماعات، ولكنهم يعملون بنظام يُعرَف بـ”الذئاب المنفردة”، وهم في الغالب عناصر غير تنظيمية، ترتكب مثل هذه النوعية من الجرائم.

إلا أن هذه المرَّة، كان مرتكِب الحادثة التي ذهب ضحيتها خمسة قتلى ونحو مائة مصاب، كان على النقيض تمامًا؛ حيث إنه – من خلال منشوراته على منصة “X” (“تويتر” سابقًا) – مناهض لما أطلق عليه “أسلَمَة أوروبا”، وكان يرفض تمامًا فتح المجال للمهاجرين هناك، بالرغم من أنه هو نفسه مهاجر من أصل سعودي، يقيم في ألمانيا منذ العام 2006م!

ومن الغريب أيضًا، أن العبد المحسن كان من مؤيدي حزب “البديل من أجل ألمانيا”، القوة اليمينية الصاعدة في ألمانيا، والمحسوب على تيار القوميين المتطرفين، أو بمعنىً أدق تيار “النازيين الجُدد” في ألمانيا، والذي أصبح القوة الثالثة في البرلمان الألماني، ومثَّل ذلك – مثل تيار لوبان في فرنسا – جرس إنذار ومصدر قلق في أوروبا بالكامل.

فمسألة الانتماء إلى تيار ديني أو اجتماعي ما، تفترض حدًّا أدنىً من اشتراطات الانتماء إلى مجتمع هذا الدين أو هذا المجتمع، فمن الممكن تفهُّم انتماء شخص عربي أو أوروبي لفكرة ذات طابع أُمَمِيٍّ، مثل الشيوعية، التي هي بطبيعتها فكرة لا تستند بالضرورة إلى انتماء قومي أو ديني بعينه.

لكن لا يمكن فهم انتماء شخص مسيحي أو يهودي أو بوذي لتنظيم ديني الطابع مثل “داعش” أو “القاعدة”، أو انتماء شخص من سلطنة عُمان أو جواتيمالا إلى حزب “المؤتمر” الهندوسي القومي في الهند!

كذلك ظهرت تقارير عن الطبيب السعودي طالب بن عبد المحسن، البالغ من العمر خمسين عامًا، الذي نفَّذ هذه العملية، تقول بأنه ملحد، ولكنها لا تزال للآن معلومة ضبابية، مثلها مثل دوافعه لارتكاب الحادث، وفق ما تستخدمه الشرطة الألمانية من مصطلحات في توصيف الجريمة.

ضبابية بوصلة تهمة الإرهاب!

تثير المعلومات المتعلقة بمرتكِب الحادث، نقطة مهمة، وهي أن السلطات الألمانية عند وقوع الحادث، قبل أنْ يتضح أيَّ شيء عن هوية مرتكِبِه، أعلنت أنها تتعامل مع “حادث إرهابي”، ثم، وبعد الحادث بيومَيْن، تم توجيه الاتهام إلى مُنَفِّذ العملية، بالقتل والشروع بالقتل، بينما لم تذكر الشرطة الألمانية أي شيء عن تهم بالإرهاب إلى العبد المحسن!

وهي ملاحظة مهمة، نقف عليها في بعض الجرائم التي تتم في أوروبا والولايات المتحدة؛ عندما يكون الجاني أبيض، أو لا ينتمي إلى الشرق الأوسط، أو لا يتركب جريمته لاعتبارات “دينية”، وإسلامية بالتحديد؛ وقتها يكون التكييف القانوني للجريمة مختلفًا تمامًا، ويدخل في بند الإرهاب مباشرة، حتى ولو كانت دوافع مرتكِب الجريمة عنصرية، كأنْ يكون من البيض كارهي المهاجرين مثلاً.

ونذكر هنا واقعة القصف بمدفع من طراز “جرينوف” من أعلى سطح أحد فنادق مدينة لاس فيجاس الامريكية، والتي قام بها أمريكي أبيض يُدعى ستيفن بادوك، في العام 2017م، وراح ضحيتها أكثر من خمسين قتيلاً.

وقتها لم يتم توجيه أية تهم تتعلق بالإرهاب إلى بادوك، بالرغم من أنه كانت له دوافع سياسية، وهو التعريف البسيط للإرهاب منذ ما يقرب من مائة عام؛ حيث الإرهاب في تعريف “عصبة الأمم” – السابقة على “الأمم المتحدة” – هو استخدام القوة أو التهديد باستخدامها من أجل تحقيق أهداف سياسية، ولم يذكر التعريف الذي اعتُمِدَ إلى الآن، أي شيء عن أنه من الضروري أنْ يكون المُنَفِّذ العملية الإرهابية مسلمًا!!

أزمات المهاجرين وأزمات ألمانيا

بقطع النظر عن دوافع مرتكِب جريمة ماجديبورج، وأنها كانت عكس الاتجاه المعتاد، فإنها في النهاية ترتبط بعدد من القضايا، منها قضية اللاجئين والمهاجرين في أوروبا، والتي عادت إلى الواجهة بقوة بعد التغييرات التي حدثت في سوريا، وفتحت المجال واسعًا للحديث عن إمكانية عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

وبالفعل، فإن عددًا من الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا والسويد وإيطاليا، علَّقت النظر في طلبات اللجوء المُقَدَّمة من السوريين، بينما بدأ دول جوار لسوريا، مثل تركيا والأردن بالفعل في مساعٍ لإعادة السوريين إلى بلادهم.

وتمثل قضية الهجرة مشكلة كبيرة داخل مجتمع يعتزُّ بقوميته مثل المجتمع الألماني؛ الذي لم تفلِح عقود طويلة من التنشئة المغايرة بعد الحرب العالمية الثانية، في أنْ ينسى الكثير من طبائعه.
والدليل على ذلك، أن النازيين الجدد، والأحزاب المُعَبِّرة عنهم تواصل صعودها في البرلمان، مع انتشار بنسبة أكبر في المجتمع [في انتخابات العام 2021م، حصل حزب “البديل من أجل ألمانيا” على نسبة 10.4 بالمائة من عدد المقاعد في البرلمان الألماني، بينما وصلت النسبة في استطلاعات الرأي حاليًا إلى ما يقرب من 20 بالمائة]

في العام 2015م، أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ألمانيا كبلد لجوء، مما ترتيب عليه هجرة حوالي مليون من طالبي اللجوء والهجرة، كان أغلبيتهم من الشرق الأوسط، وبخاصة سوريا في أوج الحرب الأهلية فيها، والعراق في ذروة نشاط تنظيم “داعش”.

ومثَّل ذلك في حينه – في ظل الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط – خطوة إيجابية حَظِيَت بالكثير من التأييد حتى داخل ألمانيا والاتحاد الأوروبي، وكان أنْ اختارت مجلة “التايم” الأمريكية ذائعة الصيت، أنجيلا ميركل كـ”شخصية العام” في ذلك الوقت.

إلا أنه بعد فترة، ومع تورط عدد من اللاجئين في أعمال عنف وجرائم إرهاب في أوروبا، مثل فرنسا وبلجيكا، وفي ألمانيا نفسها، بدا أن الثمن المدفوع لمبادرة ميركل “الإنسانية”، فادحًا.

ونضع “الإنسانية” كوصف لموقف ميركل وقتها بين قوسَيْن “….” للتأكد على أن الاعتبارات الإنسانية ليست هي الباعث الوحيد وقتها لمبادرة ميركل؛ حيث إن ألمانيا بسبب ظروفها الديموجرافية، وارتفاع مستوى الهجرة منها سنويًّا إلى نحو نصف مليون مواطن غالبيتهم من الكفاءات، إلى بلدان تقدم ظروفًا أفضل للتعليم ولمجالاتهم المهنية، فإن ألمانيا بحاجة بالفعل إلى مليون ونصف المليون مهاجر، من أجل الحفاظ على قطاع الصناعة ومعدلات النمو الاقتصادي فيها.

ولكن الأزمات الأمنية والسياسية – مع صعود اليمين المتطرف – الذي شهدته ألمانيا ودول أوروبية كثيرة بسبب ارتفاع معدلات الهجرة، كان ذلك أحد أسباب خسارة ميركل وحزبها، حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” الذي كانت تتزعمه، للانتخابات في 2021م، بعد 18 عامًا تقريبًا قضتها في منصب المستشارية (رئاسة الوزراء في ألمانيا) لصالح حكومة ائتلافية ضعيفة بقيادة أولاف شولتز زعيم “الحزب الاشتراكي الديمقراطي”.

شكَّل شولتز حكومةً ضعيفة من يسار الوسط، كان بجانب حزبه فيها، “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، حزبا “الخُضر” و”الحزب الديمقراطي الحُر” الليبرالي، وكانت من البداية منقسمة على نفسها، ولذلك، فإنها خسرت ثقة البرلمان الألماني في اقتراع الثقة الأخير الذي طرحه شولتز نفسه، في العاشر من ديسمبر الماضي، مما فتح المجال أمام انتخابات مبكرة في الثالث والعشرين من فبراير 2025م المقبل، بدلاً من سبتمبر 2025م.

كان السبب المباشر لانهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا خلاف على السياسات المالية العامة؛ حيث رَغِبَ “الحزب الديمقراطي الاجتماعي” وحزب الخُضر” تخفيف القواعد الموضوعة للديون الحكومية الصارمة المعمول بها في ألمانيا، من أجل توفير المزيد من الدعم لأوكرانيا، ومشاريع البنية الأساسية الرئيسية في البلاد، وهو ما رفضه وزير المالية كريستيان ليندنر، زعيم “الحزب الديمقراطي الحر” الذي منح الأولوية لخفض الدَّيْن العام، مما دفع شولتز إلى إقالته.

طوال السنوات الماضية، وفي ظل الأزمات الأمنية والسياسية، والضغوط الاقتصادية التي نجمت عن الحرب الأوكرانية والأزمات في الشرق الأوسط، اعتمدت حكومة شولتز إجراءات جديدة للحد من الهجرة.

ومن بين هذه الإجراءات اعتماد مشروع قانون جديد في نوفمبر 2023م، لتسريع الترحيلات، يعطي صلاحيات أكبر للشرطة الألمانية، الماضي، كما وافق البرلمان الألماني في أكتوبر الماضي على قانون جديد يتيح سحب الامتيازات الاجتماعية من طالبي اللجوء الذين سبق لهم أن تسجلوا في دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي.

وشهدت بالفعل معدلات الهجرة إلى ألمانيا انخفاضًا في العام 2023م، فبحسب مكتب الإحصاء الألماني، فقد بلغ صافي عدد المهاجرين إلى ألمانيا في العام 2023م، بما يتراوح بين 680 ألفًا و710 آلاف شخص في ذلك العام.

يُشار إلى أنه في العام 2024م، بلغ عدد سكان ألمانيا 84.7 مليون نسمة، منهم 24,9 مليون شخص من أصول أجنبية، وهو عدد يشمل المهاجرين، والأجانب المولودين في ألمانيا، والأشخاص الذين لديهم أحد الوالدين مهاجر أو أجنبي.

وفي الأخير؛ فإن الطَّوَاف السريع في بعض اطراف القصة الدرامية التي وقعت في ألمانيا قبل يومين؛ يظهر حقيقتَيْن، الأولى أن الأزمة السياسية في ألمانيا، والتي أدت إلى سقوط الائتلاف الحكومي الهَشِّ من الأصل، كان لها دور في حادثة ماجديبورج.

فالتقارير الصحيفة، تشير إلى أن مواطنة سعودية أخرى، تُدعى ليان التميمي، قد أبلغت بشكوك لها حيال منفِّذ العملية، وأعلنت الحكومة السعودية رسميًّا أنها حذرت الحكومة الألمانية منه ثلاث مرَّات.

وهو أمر كما رأينا في أسبابه، غير مُنْبَتِّ الصِّلَة عن الحرب الروسية الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط؛ حيث كان انغماس شولتز بنفسه في الحرب في أوكرانيا، علامة ضعف على سياساته في الداخل، ثم جاء استيلاء مجموعة الميليشيات الإرهابية المسلحة على السلطة من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ليكون المحرك الرئيسي لسلوك مُنَفِّذ العملية.

الحقيقة الثانية، هي أن تيارات اليمين المتطرف داخل ألمانيا، باتت تكسب أرضًا واسعةً كل يوم؛ حيث إن ضعف الائتلاف الحاكم في ألمانيا جاء نتيجة توسع حزب “البديل من أجل ألمانيا” وأحزاب أخرى يمينية في الغالب، على مقاعد البرلمان الألماني، ولتفادي التحالف معها من حزب شولتز عقب انتخابات 2021م، جاء الائتلاف الحاكم بهذه الهشاشة.

وكل ذلك يشي بصعوبات أمنية وسياسية مستقبلية بالنسبة لألمانيا؛ حيث إن ملف المهاجرين هناك ذو خصوصية كبيرة، للاعتبارات الاقتصادية التي سبق الإشارة إليها، وبالتالي، صعوبات كبيرة بالنسبة للاجئين أيضًا إذا ما جاءت انتخابات 2025م بحكومة يشارك فيها اليمين الألماني المتطرف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى