اللواء محمد إبراهيم الدويري: ست أسئلة أوجهها لأصحاب القرار الإسرائيلي لوقف دوامة الدم
قد يكون من غير المنطق أن تعالج وضعًا أو تحلل موقفًا بينما ما زالت معالمه ونهايته أو نتائجه غير واضحة، حيث إن المنطق يقول إنه من الأفضل الانتظار حتى تنتهى حدة تصاعد الموقف ثم نبدأ في التحليل الموضوعي وطرح بعض الحلول؛ إلا أن الأمر يختلف تمامًا ونحن نتحدث عن الحملة أو العمليات العسكرية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على مدينة جنين الفلسطينية وعلى مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، حيث إننا لسنا أمام وضع جديد، بل نحن نشاهد سيناريو يتكرر على فترات زمنية، بعضها متقارب وبعضها متباعد. وباختصار شديد، نحن في النهاية أمام مشهد مأساوي رأيناه كثيرًا وسوف نراه مستقبلًا ما دامت الحلول غائبة أو قاصرة أو مرفوضة.
وللأسف الشديد لم تعد مشاهد الاقتحام الإسرائيلي العنيف للضفة الغربية أو لأية مدينة فلسطينية أو حتى للمسجد الأقصى تثير هذا المجتمع الدولي صاحب المعايير المزدوجة والذى لا يتحرك إلا عندما تتهدد مصالحه الاقتصادية والأمنية فقط، أو عندما تهتز موازين القوى الدولية والإقليمية، أما في غير ذلك فإنه يتخذ موقف المراقب والمتابع والمناشد، ومن الأمور المستغربة تمامًا أن المجتمع الدولي أو تحديدًا الولايات المتحدة ترى أن العمليات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تعد نوعًا من الدفاع عن النفس بينما نجد بيانات الشجب والإدانة والمطالبة بضبط النفس إذا ما قام أي فلسطيني بأية عملية ضد الإسرائيليين في المناطق المحتلة دون التعمق في بحث أسباب هذه العملية، وفى هذا المجال سوف أظل أكرر دائمًا إدانتي الكاملة لقتل الأبرياء، وكذا إدانة أية عملية إرهابية تستهدف المواطنين الآمنين في أي مكان في العالم.
وهنا نأتي للعمليات الإسرائيلية على “جنين” ومخيمها التي بدأت يوم الثالث من يوليو الجاري والتي يحاول الإعلام الإسرائيلي أو المسئولون الإسرائيليون تصويرها أو تسويقها وكأنها حرب بين دولة إسرائيل ودولة “جنين”، وليس أدل على ذلك من استخدام إسرائيل ترسانتها العسكرية الجوية والبرية لاقتحام مخيم “جنين” الجريح في تلك المدينة الجريحة داخل الضفة الغربية الجريحة، وهى كلها جروح ناجمة أساسًا عن الإجراءات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية بصفة دائمة من اغتيالات واعتقالات واقتحامات وغيرها من الإجراءات التي يعجز القلم عن وصف مدى قسوتها وحدتها وعدم إنسانيتها.
وبعيدًا عن تفصيلات ما يحدث في “جنين” والذى لم يعد خافيًا على أي متابع، أجد من واجبى أن أسعى إلى بلورة بعض الحقائق التي يجب على الجميع معرفتها، ثم أقوم بتوجيه بعض الأسئلة إلى أولئك الذين يمتلكون زمام القرار في إسرائيل.
ولعلّى أحاول من خلال مقالي هذا توجيه الدعوة إلى أصحاب القرار الإسرائيلي، ودفعهم إلى محاولة التفكير في طبيعة الوضع الحالي، وما هي النتائج المترتبة عليه، وكيف يمكن التوصل إلى حلول تدريجية قبل أن تنفجر الأوضاع في وجه الجميع دون استثناء.
وسوف أبدأ هنا بسرد ست حقائق رئيسية، كما يلي:
الحقيقة الأولى: أن هناك اعترافًا متبادلًا بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1993، أي منذ ثلاثة عقود في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو التي كان يجب أن تؤدى إلى حل القضية الفلسطينية تمامًا لولا تعنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي رفضت تنفيذ أي بند يصب في صالح الفلسطينيين، بمعنى أن إسرائيل هي المسئولة عن فشل هذه الاتفاقات.
الحقيقة الثانية: أنه لا يوجد زعيم أو قائد فلسطيني سابق أو حالي أو سوف يأتي مستقبلًا يمتلك أي قدرة على التفريط فى الثوابت الفلسطينية، حيث إن الشعب الفلسطيني وحده هو من يمتلك هذه الثوابت وخاصة بالنسبة لقضيتي القدس واللاجئين، وعلى إسرائيل أن تعي ذلك تمامًا، كما عليها أن تعلم أن قيام الدولة الفلسطينية هي مسألة وقت، وأن كل ما تقوم به من إجراءات لن يقف حائلًا أمام قوة التاريخ وأمام تيار الإرادة الفلسطينية.
الحقيقة الثالثة: أن السلطة الفلسطينية الحالية برئاسة الرئيس “أبو مازن” تعد سلطة شديدة الاعتدال، وحريصة كل الحرص على تحقيق السلام مع إسرائيل فى إطار مبدأ حل الدولتين الذى يعترف به المجتمع الدولي، ولكنه للأسف أيضًا لا يسعى إلى تنفيذه لأسباب مختلفة من بينها عدم الرغبة أو القصور أو العجز.
الحقيقة الرابعة: أن السلطة الفلسطينية لم تعارض في يوم من الأيام أن تقوم إسرائيل بتأمين احتياجاتها الأمنية في مواجهة الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، ولكن بشرط ألا يجور ذلك على السيادة الفلسطينية.
الحقيقة الخامسة: أن الدول العربية مجتمعة، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، قدمت رؤيتها لحل القضية الفلسطينية منذ أكثر من عقدين استنادًا إلى مبدأ “السلام والتطبيع الشامل في مقابل الانسحاب الشامل” طبقًا لمبادرة السلام العربية؛ إلا أن إسرائيل لم تكتفِ برفض هذه المبادرة، بل أحجمت عن تقديم رؤيتها الرسمية، واتجهت إلى تسويق مبادئ مرفوضة مثل السلام الاقتصادي، ثم أكد نتنياهو مؤخرًا رفضه التام لإقامة الدولة الفلسطينية.
الحقيقة السادسة: أن إسرائيل أصبحت تفتقر إلى القيادات القادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية مثلما تم بالنسبة لقرار توقيع معاهدة السلام مع مصر عام 1979 وتوقيع اتفاقات أوسلو عام 1993، وأعتقد أن هذا هو التحدي القائم أمام القيادات الحالية ومدى قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية لصالح أمن واستقرار إسرائيل من خلال الموافقة على قيام الدولة الفلسطينية من خلال المفاوضات وليس من خلال استمرار هذا الاحتلال البغيض بكل جوانبه.
وفى الجانب المقابل وتأسيسًا على هذه الحقائق، من الضروري أن أوجه بعض الأسئلة إلى القادة الإسرائيليين الحاليين، ولن أطلب منهم الإجابة عليها بل التفكير فيها ولو للحظات محدودة، وهى الأسئلة الستة التالية:
السؤال الأول: هل وصلت إسرائيل إلى قناعة كاملة بأن الشعب الفلسطيني الذى تحتل أراضيه منذ عام 1967 وحتى الآن أعلن استسلامه التام لهذا الاحتلال، وأنه لن يثور في مواجهة المحتل في أي وقت وبأي وسائل يمتلكها أو يطورها أو يخترعها؟ ولعل الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2000 خير دليل على مدى صلابة هذا الشعب الصامد، وعزمه على المقاومة بكافة الوسائل المتاحة حتى يحصل على حقوقه المشروعة.
السؤال الثاني: هل ترى إسرائيل أن إجراءاتها المتطرفة في المناطق الفلسطينية وفى القدس والمسجد الأقصى سوف تمر دون عقاب ولن يكون لها أى رد فعل من الشباب الفلسطيني الذى يرى يوميًا هذه الإجراءات بل ويكتوى بنيرانها؟ وهل نجحت إجراءات الردع الإسرائيلية المختلفة في إنهاء المقاومة؟
السؤال الثالث: هل ترى الحكومة الإسرائيلية الحالية أن مثل هذه العمليات التي تقوم بها في الضفة الغربية وخاصة في “جنين” الصامدة يمكن أن تدعم موقف الحكومة المهتز وينقذ شعبيتها التي تنهار كل يوم، ومن ثم يتم وقف المظاهرات التي تتم ضد توجهات الحكومة بشأن الإصلاحات القضائية؟
السؤال الرابع: ماذا تنتظر إسرائيل من شعب يفقد كل يوم أحلامه وآماله في أن يعيش في دولة مستقلة مستقرة ذات سيادة مثل جارته دولة إسرائيل، مع العلم أن الشعب الفلسطيني وافق على أن يقيم دولته على مساحة 22% من مساحة فلسطين التاريخية؟
السؤال الخامس: هل تعتقد إسرائيل أن انهيار السلطة الفلسطينية المعتدلة سوف يكون في صالحها؟ وفى رأيي أن إسرائيل سوف تعانى أكثر مما تتوقع في حالة انهيار هذه السلطة.
السؤال السادس: هل تعتقد إسرائيل أن اتفاقات التطبيع التي تم توقيعها مع الدول العربية مؤخرًا أو تلك التي سوف تتم مستقبلًا سوف تمثل حصن الأمن والأمان بالنسبة للشعب الإسرائيلي؟ وفى رأيي أنه مهما كان حجم هذه الاتفاقات فإنها لن تحقق لإسرائيل الأمن الذى تنشده حتى لو حققت لها بعض المكاسب الاقتصادية.
- الخلاصة أن مأساة “جنين” لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة مثلها مثل كل العمليات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وأن على الإسرائيليين أن يعلموا علم اليقين أن دوامة العنف لن تتوقف، وأن الأمن الإسرائيلي لن يتحقق مطلقًا إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة بجوارهم تتحدد معالمها خلال المفاوضات السياسية. أما استمرار هذا الصلف والغرور والتعنت الإسرائيلي، فمن المؤكد أن إسرائيل سوف تكون في النهاية هي الخاسر الأكبر، لا سيما وأن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفى قطاع غزة لم يعد لديه ما يخسره. وأصبح على استعداد لمعركة طويلة الأمد حتى بدون أن يمتلك الترسانة العسكرية التي تمتلكها إسرائيل.
- أما كيف يمكن أن تتوقف دوامة العنف الحالية، ففي رأيي أن الإجراءات الأمنية الإسرائيلية سوف تفشل فشلًا ذريعًا في وقف هذه الدوامة مهما كان حجم وقوة وعنف هذه الإجراءات.
ومع تقديري وتأييدي للقرارات المهمة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية ردًا على عملية “جنين”، فإن الحل الوحيد في رأيي يتمثل في الجانب السياسي الذى تحجم معظم الأطراف عن اقتحامه حتى الآن.
ومن هنا فإنني ما زلت على قناعة كاملة بأن مصر هي الدولة الرائدة التي يجب أن تبدأ الدعوة للمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ثم تحدد بالتنسيق مع بعض الأطراف المعنية آليات العملية التفاوضية.
وعلينا أن نجرب هذا المسار الصعب المتوقف منذ حوالى عشر سنوات مرة واحدة ونرى نتائجه التي من المؤكد أنها سوف تكون أكثر إيجابية وفاعلية مقارنة باستمرار دوامة العنف.
المقال نشر لأول مرة مركز الفكر للدراسات والأبحاث الاستراتيجية