د. سعيد الصباغ يكتب: الثقافة.. قوة مصر الناعمة.. ماذا حدث وكيف نطور؟
على الرغم من أن مصر تمتلك مقومات فكرية خلاقة وقدرات ثقافية جاذبة، بلورت جوهر وعي المصريين بذاتهم وجسدت معالم هويتهم، ورسخت لديهم الشعور الدائم بالانتماء لترابها والولاء لأرضها. وقد مثلت هذه المقومات مصدراً من مصادر توليد قوة مصر الناعمة، فصاغت من خلالها خيارات الآخرين، وحققت لها نجاحات سياسية على المستوى الإقليمي والدولي.
ثقافة خارجية
إلا أن المواطن المصري تُرك ضحية لصناعة ثقافية خارجية غيرت كثيرا من انتمائه السمعي والبصري والعقيدي والفكري، بينما أصبحت الثقافية المصرية غير قادرة على التعبير عن تطلعات القاعدة العريضة من الجماهير؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور فراغ ثقافي، أفضى بدوره إلى ظهور تيار فكري اتصف بالحيوية والفعالية والجاذبية الأيديولوجية “الصحوة الإسلامية” فنجح في استقطاب قاعدة شعبية عريضة، طالما كانت تبحث عمن يخفف من معاناتها.
أجيال متتابعة
كما نجح في تنشئة أجيال متتابعة على مبدأ مفاده أنه هو التيار الوحيد المعبر عن الحقيقة المطلقة، خاصة أنه قام بإعادة تعريف كثير من المفاهيم، في ضوء معتقداته؛ وسد الأفق الثقافي بجدليات تسببت في تغييب الوعي عن قضايا المجتمع الحقيقية وإرباك ترتيب أولوياته. فوضعته أمام جدليات مُربِكة من قبيل العلاقة بين الدين والفن، والحجاب والنقاب، وبين المسلم والنصراني، دون أن تستنهض فيه القيم الأعمق الداعمة لحُسن الخُلق والترابط الاجتماعي، وإتقان العمل، والأمانة، ومراعاة النظام.. الخ
الوعى فريسة
وبالتالي وقع الوعي الجمعي المصري فريسة لتيارات دخيلة أفقدته الأمل في الحياة؛ فظهرت أجيال تشعر بالتقذم، منسلخة عن ذاتها وقيمها، غير مدركة لعظمة مصر الفكرية والثقافية. بينما روجت التيارات الدينية تعريفها لمفهوم علماء الدين تعريفا فارزاً بين ما أسمته شيوخ سلطة وشيوخ مقاومة؛ بهدف التشكيك بالأزهر الشريف وعلمائه وإفقاده المصداقية والقدرة على التأثير، بوصفه أحد مصادر قوة مصر الناعمة.
كما ظهرت فئة جديدة قُدمت للجماهير بمسمى الدعاة الجُدد التي توفر لها الدعم المادي والإعلامي لاستقطاب جموع الشباب المتطلع إلى تحقيق طموحاته وتطلعاته.
رقعة الفراغ
وفي المقابل فشلت وزارة الثقافة في استثارة مكامن الإبداع وملكاته؛ فتوسعت رقعة الفراغ الثقافي والفني بالمجتمع؛ مما جعل المواطن فيها ضحية لعمليات تغييب الوعي وتزييفه، وانحسر تأثير الثقافة المصرية، لصالح بروز وتعدد ثقافي إقليمي، فبرز على الساحة الطابع الثقافي الخليجي المحافظ، وتعاظم الطابع الإيراني المذهبي، والتركي الانتهازي. وفقدت مصر عمقها الاستراتيجي الثقافي، وتراجعت مركزية دورها الثقافي الإقليمي، في ظل محاولات مستمرة لتفكيك هذا الدور الوحيد الذي يحظى بالتجانس والقبول على امتداد الخريطة العربية.
مصداقية جوائز الدولة
كما تراجعت الأهمية الرمزية لجوائز الدولة، بعد أن طالت مصداقيتها أمور ما، كما تراجع الإنتاج السينمائي، وتقلص نشاط المسرح، ومسرح الطفل، والفنون الشعبية، وتحولت قصور الثقافة إلى مجرد أداء بيروقراطي. كما انعدمت الأنشطة الثقافية والفنية داخل المؤسسات التعليمية، التي كانت تكتشف المواهب وتدفعها بها نحو عالم الإبداع
وبالتالي أصبحت هناك ضرورة ملحة لوضع استراتيجية متكاملة؛ تهدف لتعظم دور الثقافة في التنمية التي تشهدها مصر اليوم، وتأسيس خطاب ثقافي حداثي قادر على تكريس الهوية المصرية وتعزيز أدوات تأثيره على المستوى الإقليمي والدولي، وتبني سياسة ثقافية وفنية شاملة تُجسد حرية الإبداع، وتكرس الانتماء وتعزز المنظومة القيمية وترتقي بمستوى الذوق العام
الثقافة الرقمية
لقد بات على وزارة الثقافة أن تدُرك أننا انتقلنا إلى عصر الثقافة الرقمية التي تجاوزت بتقنيتها حدود المستوى التعليمي للأفراد وفئاتهم العمرية وجنسهم ولغتهم وعقيدتهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم، كما اجتازت حدود جغرافية وجودهم. الأمر الذي يفرض عليها تحديات كبيرة ويجعل المسئولية المُلقاة على عاتقها مسئولية جسيمة أكثر من أي وقت مضى.
إذ بات عليها اليوم، أمام هذا التحدي التقني: انتهاج سياسة ثقافية وآليه تنفيذ تواكب التطور السريع في عالم الاتصالات، ورفع مستوى الوعي الثقافي بالمجتمع بشكل مستمر، خاصة في ظل حالة اضطراب الهوية السائد لدى العامة. والعمل على الارتقاء بالذوق العام، والإسهام بدورها في معالجة كوامن الخلل الذي أصاب المنظومة القيمية، وإعادة بناء الوعي الجمعي على أُسس من العلم والمعرفة؛ تتعزز فيه هويته الحقيقية ويترسخ انتماؤه لوطنه، وصولاً إلى تحقيق نهضة فنية وثقافية وفكرية شاملة تستحث مكامن الإبداع الفني والخلق الثقافي الذي من شأنه أن يفعِّل دور الفرد في عملية التنمية الشاملة للدولة.
جغرافية الوجود
كما يجب أن تدُرك وزارة الثقافة أننا قد انتقلنا إلى عصر الثقافة الرقمية التي تجاوزت بتقنيتها حدود المستوى التعليمي للأفراد وفئاتهم العمرية وجنسهم ولغتهم وعقيدتهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم، كما اجتازت حدود جغرافية وجودهم. الأمر الذي يفرض عليها انتهاج سياسات إبداعية والانتقال إلى عصر الثقافة الرقمية إذا أرادت أن تمتلك القدرة على التأثير العابرة للحدود، في هذا العالم المتغير.
مقالات أخرى للكاتب:
د.سعيد الصباغ يكتب: كل أبعاد التطبيع السعودي الإيراني.. المعلنة والخفية.. وما الفائدة والضرر على مصر
الكاتب: أستاذ الدراسات الإيرانية المعاصرة بكلية الآداب جامعة عين شمس، ورئيس وحدة الدراسات الإيرانية بمركز بحوث الشرق الأوسط جامعة عين شمس