fbpx
مقالات

محمد فؤاد البري يكتب: الذكاء الاصطناعي ومستقبل التخصصات الكلاسيكية

لا أحد ينكر دور العلوم الإنسانية في رقي الشعوب وشأن أي علم يجب أن يواكب عصره للاستفادة القصوى من نتائجه إلا أن مناهج العلوم الإنسانية في معظم الجامعات العربية والمصرية مازالت جامدة ولا تناسب طبيعة هذا العصر المتغير، فالمهارات التي يكتسبها الطالب في العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات الآن تشجع على الوظائف التقليدية والتي لم تعد تتناسب مع طبيعة العصر الرقمي التي فرضتها الثورة التكنولوجية. هناك تنبؤات مستقبلية تشير إلى أن المعرفة سوف تتضاعف كل ثلاثة وسبعين يوماً بحلول عام 2050، وأن الأفراد سوف يستخدمون (1%) فقط من المعرفة الحالية بحلول عام 2050، فالمهن تتبدل وتتطور بجميع مجالاتها وثبوتية مناهج العلوم الإنسانية في مصر كارثة نظرا لأن عدد كبير من الشباب يلتحق بتلك البرامج سنويا دون ان نسأل أنفسنا هل هناك عائد اقتصادي من الانفاق على تلك البرامج وهل العلوم الإنسانية ترتقي حقاً؟

بالرغم أن التعليم الجامعي في مصر يعطي أهمية للفنون والعلوم الإنسانية والإعلام حوالي 19% من حجم الخريجين إلا أن جاءت مصر في المرتبة 87 عالمياً من بين 133دولة في حجم الصادرات الثقافية (%من جملة الصادرات) وفقا لبيانات مؤشر المعرفة العالمي 2023، وإذا استمرت سياسة القبول في العلوم الإنسانية ذات التخصص الأحادي سيستمر معها ضعف الصادرات الإبداعية وبطالة خريجي تلك التخصصات.

ولكن السؤال الذي من أجله كُتب المقال كيف نحول العلوم الإنسانية في الجامعات المصرية من السلبية والركود إلى الإنتاجية والإبداع؟

لقد كان تقارب الثقافتين واحداً من أهم أسباب التقدم المذهل الذي نشهده اليوم في كافة المجالات، فعلى الحدود المشتركة بين ” علوم الطبيعيات ” من رياضيات وفيزياء وكيمياء وبيولوجيا وغيرهم، و”علوم الإنسانيات ” من فلسفة وأدب وعلم نفس واقتصاد وإدارة واجتماع وغيرهم، تقع الأرض التي أثمرت أغلب انجازات الانسان الفكرية والتكنولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين والتي غيرت من نمط حياته المادي والمعنوي تغيرا جذرياً غير مسبوق. فمن هذه الأرض جاء على سبيل المثال ” الذكاء الاصطناعي ” وليداً لتزاوج علم النفس وعلوم اللغة والمنطق والفلسفة مع علوم الحاسب المختلفة. بينما دراسة العلوم الإنسانية بشكل منعزل عن البرامج الحديثة والعلوم الأخرى ليس لها عائد ثقافي أو اقتصادي.

العلاقة التبادلية بين الذكاء الاصطناعي والعلوم الاجتماعية والإنسانية قائمة في معظم الجامعات الدولية حيث اعتمد الذكاء الاصطناعي على فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية ومن أهمها علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الانثروبولوجيا، وعلم اللغة، وعلم الفلسفة باعتبارها مصادر المعرفة والمفاهيم والنظريات العلمية المتعلقة بالإنسان وطرق تفكيره وسلوكياته وأساليب التفكير البشري. وفي المقابل استفادت العلوم الاجتماعية والإنسانية في الانتقال الى ما يسمى اليوم بالإنسانيات الرقمية Digital Humanities”” مصطلح جديد ينتج من العلاقة المتبادلة بين الذكاء الاصطناعي والانسانيات.
ومن هنا فعالم الطبيعيات يلزم أن يكون مثقف بعلوم الإنسانيات لأن في الأصل معظم بل كل إنتاج علوم الطبيعيات والتكنولوجيات هو في الأساس الجوهري لخدمة منتجات ثقافة الانسانيات: ويؤكد تقرير نشر في” UN Trade and Development” “منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” أن برامج الذكاء الاصطناعي أصبحت ضرورة لتسويق منتجات العلوم الإنسانية والثقافية وان البرمجة هي لغة العصر ويجب ان يتقنها اكبر عدد من الخريجين مهما كان تخصصه فهي لم تكن الهدف وانما أصبحت وسيلة لنقل المعارف والعلوم والثقافات ومازال أمام الجامعة المصرية تحدي كبير لإذابة تلك الفوارق .. على سبيل المثال تطور علم كالجغرافيا في الجامعات العالمية تطور مذهل فأصبح هناك ما يسمي ” البرمجة المكانية بلغات متعددة وخرائط رقمية عالية الدقة ” حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد البيانات الجغرافية بشكل أكثر دقة وكفاءة ويمكن تحسين خوارزميات توجيه النقل والملاحة لتقديم أفضل الطرق والخيارات باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي حتى أصبح علم الجغرافيا من العلوم البينية والذي خرج عن نطاق الانسانيات وارتبط بعلوم أخرى ومجالات متعددة لتحويله من علم نظري بحت إلى علم تطبيقي وتلك هي ثقافة العلوم الحديثة والتي تنفتح على العلوم الأخرى لتحقيق أكبر استفادة.
ضعف الاقتصاد الإبداعي ” الثقافي ” في مصر يرجع إلى الانفصال شبه التام بين منتجات العلوم الإنسانية والأدبية عن تقنيات التكنولوجيات “الذكاء الاصطناعي وبرامجه “حيث ارتفعت الصادرات العالمية من الخدمات الإبداعية الي 1.4 تريليون دولار في حين بلغ اجمالي السلع الإبداعية 713 مليار دولار ، هذا وكانت الخدمات الإبداعية الأكثر تصديرا في عام 2022 هي خدمات البرمجيات (41.3%) والبحث والتطوير (30.7%) يليها الإعلان وأبحاث السوق والهندسة المعمارية 15.5% والخدمات السمعية والبصرية 7.9% وخدمات المعلومات 4% وأخيرا الخدمات الثقافية والترفيهية والتراثية (0,6%) فرغم أن مصر أكبر رصيد ثقافي وتراثي في العالم إلا أن صادراتها الإبداعية مازالت ضعيفة علي سبيل المثال فتقنيات الذكاء الاصطناعي قد تحول علم كلاسيكي كالتاريخ ليس له علاقة بالإنتاج إلى علم منتج اذا تم تسويق المحتوي التاريخي في مجالات إبداعية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي ، كذلك دراسة علم كالفلسفة بشكل منعزل والذي يدرس في كليات الآداب الآن ليس له من وجهة نظري أي قيمة نفعية فالفلسفة تدرس في الأصل ليستخدمها الباحث كمنهج أو طريقة تفكير لفهم العلوم الأخرى فيما يعرف ب ” فلسفة العلوم ” ، كما أن خلق الطالب المثقف مسؤولية الجامعة لكافة التخصصات وليست لطلاب العلوم الإنسانية فقط لذا فتطبيق التخصص الثنائي خطوة هامة لابد من إعادة النظر في تطبيقها أن يكون لكل جامعي تخصصين : تخصص رئيسي” عملي “وآخر ثانوي ” نظري” حتى تخلق عقلية متزنة قادرة على العطاء والتأقلم مع وظائف المستقبل والسوق العالمي.

في النهاية لا شك أن الذكاء البشري هو من أوجد الذكاء الاصطناعي وحتى لا يتحكم الذكاء الاصطناعي في مصير الانسان ولا نجد روائيا ولا مترجما ولا رساما نتيجة لقدرة برامج الذكاء الاصطناعي على محاكاة الابداع الإنساني والتي قد تجعل الحياة لا معنى لها، فان ثقافة الانسانيات يجب أن تسود لدي متخصصين التكنولوجيات لحماية التراث الإبداعي للإنسان.

، كذلك مخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن تكون مقنعة لدرجة تخلق شعورا زائفا بكونها واقعا حقيقيا من خلال نشر صور مركبة أو فيديو اصطناعي. وينطوي ذلك على إمكانية نشر معلومات مغلوطة، وإثارة الذعر، بل وزعزعة استقرار النظم الاقتصادية أو المالية بكفاءة وقوة غير مسبوقتين. وقد لا يكون الأمر متعمدا دائما؛ فقد تنشر الآلات معلومات مغلوطة عن غير قصد نتيجة لهلوسات الذكاء الاصطناعي.

إننا نقف على مفترق طرق بين التكنولوجيا والأخلاقيات. فلا يمكن التراجع عن اختراع الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما يحمله من وعود كبيرة وأسئلة وجودية عميقة. وبينما نستفيد من قوته التحويلية، فمن الضروري أن نتذكر نصيحة تورينغ الباقية فالذكاء الاصطناعي التحويلي يمثل تحولا هائلا يتطلب رقابة يقظة، وأطرا تنظيمية جديدة، والتزاما راسخا بالابتكارات الأخلاقية التي تتسم بالشفافية ويمكن التحكم فيها وتتسق مع القيم الإنسانية.

للتقليل من مخاطر الذكاء الاصطناعي من ناحية والتقليل من معدلات البطالة المحتملة بالاستمرار في دراسة العلوم الإنسانية بشكل أحادي من ناحية أخرى.. يجب على الدولة أن تتبني تلك القرارات:

  • الأخذ بنظام ” التخصص الرئيسي”Major المصحوب ب “تخصص ثانوي “Minor في أحد فروع ثقافة مغايرة لثقافة التخصص الرئيسي. فبهذا تتكون الكوادر الفكرية القادرة على التعامل مع رؤى عصر ما بعد الصناعة.
  • التوسع في إنشاء مراكز أو معاهد التي تعني بالدراسات والبحوث التعددية والتداخلية وتقليص عدد الأقسام النظرية الأحادية خاصة في العلوم الإنسانية.
  • تغيير سياسة التعليم الثانوي القائمة الآن في النظام المصري والخاصة بتوزيع الطلاب على شعبتين: القسم الأدبي والعلمي ودمج التخصصات معا في قسم واحد واضافة مقررات للذكاء الاصطناعي من المرحلة الثانوية حتى لا يحدث مستقبلا عملية الانفصال والتباعد بين الثقافتين تمهيدا لتطبيق دراسة ثنائية التخصصات مستقبلا في الجامعات المصرية. وقد يقوم النظام في المرحلة الثانوية على أربعة مناهج رئيسية بدون فواصل وهم : العلوم اللغوية ، والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والذكاء الاصطناعي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى