fbpx
مقالات

أحمد صبري شلبي يكتب: الليث بن سعد.. صوت الوسطية من قلب الهوية المصرية


في زمنٍ نشهد فيه تزايداً في التطرف الديني والتعصب المذهبي، يبرز هنا دور النماذج التاريخية التي حملت مشعل الوسطية والتسامح ومن أبرز هؤلاء النماذج، الإمام الليث بن سعد، الفقيه والمحدث الذي ترك بصمة واضحة في تاريخ الفكر الإسلامي

فمن هو الإمام الليث بن سعد.. وما هي نظرته حول الوسطية والتسامح.. وما هي مكانته في عالم الفقه والحديث.. وكيف شكلت الهوية المصرية آرائه؟

الليث بن سعد، هو شيخ الإسلام الإمام الحافظ العالم أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن بن عقبة الفهمي القلقشندي، أحد أئمة الفقه والحديث في مصر، ولد في قرية قلقشندة بمحافظة القليوبية بدلتا مصر عام 94 هـ / 713 م والمتوفى إلى رحمة الله عام 175 هـ / 791 م.

لعبت الهوية المصرية دورا مؤثرا في تكوين وتشكيل شخصية الليث بن سعد، حيث نشأت طفولته في تلك القرية التي تتميز كباقي قرى مصر في تلك الفترة بامتداد الخضرة على مرمى البصر، فلم يقع بصره إلا على خضرة الحقول، وزهور البساتين، وثمارها، ولم يطرق أذنيه إلا لأصوات تدفق المياه، وتغريد الطيور، وحفيف الأشجار، فشب محباً لجمال خلق الله جل جلاله، واكتسب صفاء النفس والعقل والذوق وكان والده من كبراء البلدة وواحداً من أثرياء بلدته فنشأ في رغدٍ من العيش وتمتع طوال حياته بما أحله الله من متاع الحياة.

اشتهر الإمام بحفظه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبفقهه العميق، وبأخلاقه العالية، وقد كان له دورا كبيرا في نشر العلم الشرعي وتأصيل قيمه في المجتمع المصري، يؤمن بأن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، وأن التطرف والغلو في الدين من أخطر الأمور التي تهدد المجتمعات، مؤكدا على أهمية التسامح مع المخالفين في الرأي، والتعامل معهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان يرى أن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي ومقبول، وأن الحوار والنقاش العلمي هما أفضل السبل لحل الخلافات، مما جعله نموذجاً يحتذى به في التمسك بالوسطية والتسامح، فحياته وعلمه يشكلان مصداقاً حياً لما جاء به الإسلام من تعاليم سامية.

أدرك الليث منذ وقت مبكر طبيعة الإسلام السمحة الرحبة المتعالية، فسعى جاهداً إلى اكتشاف أسرار القرآن والحديث بالتعمق في دراسة اللغة العربية وقواعدها، وهو ما أثنى عليه الفقهاء فيما بعد، مدركاً أن النصوص القرآنية والنبوية ليست حروفاً ترص رصاً، لكنها آيات الله المناسبة في الألفاظ لتخلق معاني تخاطب القلب وتهذب الروح.

ولعل أهم ما شكل شخصية وآراء الليث بن سعد التعددية الثقافية، فقد كان محباً للعلم بكل صنوفه وأشكاله، فكان يتقن اللغتين العربية وهي لغة الإسلام والقرآن والحديث، بالإضافة إلى اللغة القبطية التي لم تكن قد اختفت بعد من الشارع المصري، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشيء الذي جعل عقله ينفتح على الثقافات الأخرى لينهل من علومها ويصقل تجاربه في الحياة والفكر والثقافة.

وكان رحمه الله كريما معطاء، وكان له مواقف عظيمة في السخاء، فلم يكن كريما مع أهل بدلته فحسب، بل كان كريما سخيا مع الآخرين حتى ممن خارج مصر، دائم التصدق على الفقراء والمساكين، بشوش الوجه، سمح الطباع، حتى أنه كان يخصص وقتا من يومه لأصحاب الحوائج.

هل تعلم عزيزي القارئ بأن الليث بن سعد صاحب أحد المذاهب الفقهية التي كان ينبغي لها أن تكون في نفس مكانة الآراء الفقهية لأئمة الفقه الأربعة (الإمام أبو حنيفة النعمان – الإمام مالك بن أنس – الإمام الشافعي – الإمام أحمد بن حنبل)، وهذا ليس رأيي الشخصي تحيزا له، انما هو رأي الإمام الشافعي حينما قال “الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به”

للأسف، لم يصلنا الكثير من آراء الإمام الليث بن سعد بشكل منهجي، ربما لعدم اهتمام تلامذته بتدوينها أو لضياعها بمرور الزمن. ومن المؤسف حقًا ضياع هذا الإرث الفقهي الغني، والذي كان يمكن أن يثري الحوار الفقهي المعاصر ويقدم رؤى جديدة في قضايا معاصرة. فارتباط الإمام الليث بن سعد بثقافة ووعي المجتمع المصري، جعل آراءه تحمل في طياتها فهمًا عميقًا للاحتياجات والتحديات التي تواجه المجتمعات. ومن المؤكد أن دراسة آرائه كانت ستساعدنا في فهم أفضل لكثير من القضايا الفقهية المعاصرة، وتقديم رؤى جديدة ومبتكرة ترسخ أواصل الهوية المصرية بداخلنا.

كم أحوجنا اليوم، في ظل ما نشهده من تزايد التطرف والكراهية، لمثل هذه الرموز التي تجسد قيم الوسطية والتسامح التي تميز الهوية المصرية الأصيلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى