إعداد: أحمد التلاوي
في الثامن من ديسمبر الجاري، كانت سوريا على موعد مع حدث كبير، سوف يُغَيِّر بالتأكيد من خريطتها السياسية والاجتماعية، وحتى خريطتها الجغرافية، وربما خرائط أخرى في الشرق الأوسط.
المدهش أن كل هذه التطورات بدأت قبل ما يقل عن أسبوعين فحسب، عندما بدأت المجموعات المسلحة المدعومة من تركيا عملياتها في السابع والعشرين من نوفمبر الماضي، عملية عسكرية أُطلِقَ عليها “ردع العدوان”، بعد ساعات قليلة من دخول اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بين إسرائيل و”حزب الله” حيِّز التنفيذ.
خطوط القتال وسير العمليات أكدت الكثير حول هوية هذا الذي يجري في سوريا؛ حيث لم تستهدف هذه المجموعات الإرهابية قوات ونقاط تمركز الجيش العربي السوري ومراكز الأمن التابعة لنظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد فقط، وإنما ركَّزت بشكل كبير على مناطق تمركز الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، بينما – للغرابة – جاءت العمليات ضد الأكراد في نهاية المطاف؛ حيث بدأت في الثامن من ديسمبر بعد فرار بشار الأسد من سوريا.
وللتذكير؛ بدأت العمليات في إدلب ومناطق ريف حماة، وحول الطريق الدولي الواصل بين حماة والعاصمة السورية دمشق، ثم، وبعد الوصول إلى حمص، بدأت تحركات مماثلة في السويداء ودرعا جنوبًا، وتحول اسم العملية في هذا الإطار، ومع الاقتراب من العاصمة السورية دمشق، من “ردع العدوان” إلى “فجر الحرية”.
وتكشف هذه التحركات التي تتم وفق مخطط دقيق، وبصورة شديدة التنسيق، أن الأمر لا يمكن أنْ يكون مجرَّد تحركات عفوية من مجموعات مسلحة “تُعبِّر عن إرادة الشعب السوري” كما تزعم تركيا، أو أن التحرك سوري بحت.
فما جرى بتحضيراته اللوجستية، وأنظمة الاتصالات الخاصة به، بالإضافة إلى تحرك المجموعات على الأرض، وغير ذلك من الأمور مما يفهمه العسكريون وخبراء الأمن، أن هناك دولة، بل دول، وأجهزة مخابرات محترفة تشرف على العملية.
ويؤكد ذلك الانهيار الكبير المفاجئ للجيش السوري النظامي، والانسحابات المتواصلة للقوات العسكرية وقوات الأمن من المراكز العسكرية والأمنية المختلفة على طول خطوط زحف هذه المجموعات المسلحة، والسهولة التي تم بها تسليم المدن السورية الرئيسية، المدينة تِلوَ الأخرى لها.
فهذا لا يمكن أنْ يحصل من دون وجود خيانات داخلية، تم التعامل معها بواسطة جهاز مخابرات أو أكثر من الخارج، ويعزز من ذلك تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام عن أن التغيير في سوريا “يتم في هدوء”، وهو ما حدث فعلاً.
كما أن طبيعة الأهداف وتسلسلها، يقول بذلك، فهذه الجماعات في مواقف أخرى، أثبتت عدم خبرتها وجهلها الكبير بالعديد من الاعتبارات السياسية، ولكن هذه المرَّة، “أثبتت” – بناء على التوجيه الاحترافي الذي تعمل من خلاله – ذكاءً سياسيًّا كبيرًا، عندما لم تعمد إلى تنفيذ عمليات انتقامية أو طائفية الطابع في المناطق التي احتلتها، كما تفادت الهجوم على الأهداف الروسية والأمريكية هناك.
كما أن استهداف أكراد شرق الفرات دون غربه؛ حيث القوات الأمريكية متمركزة هناك ضمن مهمة ما يعرف بالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة “داعش”، إنما يكشف عن وجه تركي بامتياز في الموضوع؛ حيث نعلم من خلال السنوات الماضية أن وجود الأكراد المسلح في مناطق شرق الفرات، ومن خلال تصريحات واضحة للمسؤولين الأتراك، هو خط أحمر بالنسبة للأمن القومي التركي، وكان الوجود الكردي في تل رفعت ومنبج وغيرها من المناطق يمثل خطورة كبيرة على الأمن القومي التركي.
واستغلت إسرائيل الفرصة، فكانت الضربات التي استهدفت مواقع خاصة بالأسلحة الكيماوية السورية خشية وقوعها في أيدي الفصائل المسلحة، قبل يوم واحد من هروب بشار، ثم أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن انهيار اتفاق فض الاشتباك المُوَقَّع مع الحكومة السورية في العام 1974م، على إثر حرب رمضان / أكتوبر 1973م، وتوجيه الجيش الإسرائيلي لاحتلال المنطقة العازلة الفاصلة بين الجبهتَيْن السورية والإسرائيلية، والتي تضم جبل الشيخ والقُنَيْطِرَة، مركز هضبة الجولان السورية التي عادت محتلةً الآن بالكامل، بعد إعادة إسرائيل احتلال المناطق التي تم تحريرها في حرب أكتوبر من العام 1973م.
والحقيقة أن التطابق الغريب والمريب بين الأهداف التي سعت المجموعات “السورية” المسلحة إلى تحقيقها على الأرض مع الأهداف الإسرائيلية، وعلى رأسها طرد الميليشيات الإيرانية وما تبقَّى من “حزب الله” في سوريا من عناصر، ومطاردتها حتى الحدود العراقية واللبنانية على التوالي، بالإضافة إلى تجاهل التحركات الإسرائيلية في الجولان، حتى في تصريحات المسؤولين الأتراك؛ يقول بالكثير.
في المقابل؛ تبدو إيران قليلة الحيلة، بينما “حزب الله” يعاني هزيمة عسكرية وسياسية فككته تقريبًا، وأضاعت نفوذه، وبالتالي؛ كان المجال واسعًا لتركيا وإسرائيل لتنفيذ مخططاتهم في سوريا.
وهنا، وعلى ذِكْر المخططات الأجنبية، لابد من العودة إلى التاريخ البعيد، إلى وقت الاستقلال الرسمي لسوريا ولبنان، وإعلان الدولتَيْن على حدودهما الحالية؛ حيث يظل تقسيم سوريا وإيجاد وجود عسكري أمريكي دائم هناك، في ذات المناطق الموجودة فيها القواعد الأمريكية حاليًا في شمال وشمال شرق سوريا، هدفًا إستراتيجيًّا بالنسبة للولايات المتحدة.
ففي سلسلته “حرب الثلاثين عامًا” التي ضمَّت أربع مجلدات عملاقة، أورد الكاتب والسياسي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، الكثير من الوثائق التي تشير إلى ذلك، ومنها مراسلات بين دبلوماسيين أمريكيين في الشرق الأوسط وقياداتهم في وزارة الخارجية في واشنطن تذكر ذلك بوضوح.
هذا يضيف المزيد إلى أركان الصورة المعقدة التي نبحث فيها، ولكن انتظارًا لتطورات الأيام المقبلة، لابد وأن نؤكد على حقيقة شديدة الأهمية، وهي أنه إذا ما كان هناك مسؤول أساسي عن كل هذا الذي يجري، هو بشار الأسد نفسه؛ حيث تسببت سلسلة من الأخطاء الفادحة في أنْ يلقى، وتلقى بلاده هذا المصير الشائن.
فحتى الخيانات الداخلية، والتخاذل والتراخي الذي رأيناه في إداء الجيش النظامي السوري وأجهزة الأمن التابعة لنظام بشار الأسد، إنما لم تكن لتنجح لولا الفساد والترهُّل الكبير الذي تعرفه المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية.
هذا الفساد والترهُّل كانا في الأصل أحد أهم الأمور التي قادت سوريا إلى هذا الآتون الذي سقطت فيه؛ حيث إن أعمال العنف والاحتجاجات التي بدأت في أرياف المدن السورية، وقابلها النظام السوري بالمزيد من العنف، فكانت النتيجة المُحزِنة الحالية، كانت نتيجة تخاذل وفساد أجهزة الأمن السورية عن القيام بأدوارها.
فغضَّت الطرف عن عودة عناصر كثيرة من تنظيم الإخوان إلى هناك، خلافًا للقانون السوري المفروض في البلاد منذ العام 1980م، والمعروف بالقانون “49”، والذي يقضي في مادته الأولى بإعدام أي شخص يثبت انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين.
كما كان لعناد الرئيس السوري الذي قاده إلى رفض الكثير من المبادرات التي طرحتها دول الإقليم المختلفة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، فكانت آثارها على الإقليم بالكامل، بل وخارجه، في موجات نزوح غير شرعي وموجات لاجئين وإرهاب وصلت إلى أوروبا بالكامل، بالإضافة إلى جرائم العنصرية والكراهية التي بدأت تتحرك في تركيا – الأداة الرئيسية لما يحدث الآن في المنطقة – بسبب طول أمد بقاء نحو أربعة ملايين سوري لاجئ في تركيا.
أيضًا كان تلاعبه في ملف الأكراد والأزمات الأمنية التي نشأت عن الأزمة السورية، عنصر ضغط عليه، وحتى على حلفائه الذين لهم علاقات مع خصومه أيضًا، وعلى رأسهم روسيا المنشغلة بوحول حربها في أوكرانيا، فتعاملت مع الموقف ببراجماتية كاملة، متى ضمنت مصالحها في قواعدها في اللاذقية وطرطوس، مما أدى إلى الانفجار الكبير الأخير.