هشام النجار يكتب: الخلافة بعد مائة عام.. هل اتعظت الأمة؟
من أسباب ظهور ونمو تيار الإسلام السياسي بشقيه السني وفي القلب منه جماعة الإخوان والشيعي بكل تجلياته بدءًا من المركز في إيران وصولًا للفروع إلغاء (الخلافة العثمانية) في مارس 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك أي قبل قرن من الزمان، فقد وجد التيار السلفي وقتها في الحدث الكبير حافزًا لصعوده واضعًا هدف إستعادتها، فتشكلت أولًا جمعية الشبان المسلمين سنة 1927م ثم جماعة الإخوان بعد ذلك عام 1928م، وعلى إثرها وشاكلتها وأدبياتها تكون كل الطيف الجماعاتي اللادولتي والميليشياوي الذي خبرته الأمة جيدًا ممارسة وأداءًا وخطابًا، وفق ذلك وقبله وبعده فقد تعلمت الدرس الكبير بمنتهى القسوة بعد تجريب كل هذه الظواهر التي تسببت في أشد وأقسى محنها ونكباتها وأزماتها، ولم تحقق مجدًا ولا نصرًا ولا نهضة كما زعموا جميعًا تحت شعار إستعادة حكم الخلافة الأممي.
لم تعدْ ولن تعود تلك الخلافة التي تحدث عنها كل قادة تيار الإسلام السياسي السني والشيعي واعدين المسلمين باستعادة أمجادها الزاهرة في خداع مقيت دنيء خسيس لقطاع من المسلمين تشغلهم همومهم وأعمالهم ومتاعبهم عن تحصيل المعرفة المطلوبة وللتعلم من دروس التاريخ والوقوف على حقيقة الأشياء والمصطلحات والمفاهيم، لم ولم تعود لأنها ببساطة شديدة انتهت مع انقضاء حكم الخلفاء الراشدين وهي فترة مخصوصة أعقبت وفاة الرسول مدتها ثلاثين عامًا (ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).
لم تبدأ الدولة العثمانية منذ بداية تكوين الإمبراطورية العثمانية كخلافة بل كانت تلقب بالسلطنة ثم بالدولة السنية ثم الدولة العلية ولم تُدع (الخلافة) إلا في القرن الثامن عشر وكانت مثالًا للقهر والاستبداد الذي يتعارض مع تعاليم الإسلام، وقد عامل العثمانيون شعوب الدول التي احتلوها معاملة الرعية المقهورة.
يعبر العالم الجليل علي عبد الرازق عن أثر الخلافة السلبي في عدم تطور شكل الحكومة وجمود العلوم السياسية والاجتماعية فيؤكد أن الدين الإسلامي برئ من نظام الخلافة ومن الأدواء التي عصفت به وأدت لتأخير المسلمين في سيرهم نحو التقدم.
لقد شلت الخلافة كل تطور في شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة خصوصًا بسبب العسف الذي أنزله بعض (الخلفاء) بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية لأنهم صاغوها في قوالب تتفق مع مصالحهم.
وأكد جمال الدين الأفغاني على نفس الفكرة؛ فالأتراك حرموا الأمم التي حكموها أسباب الحضارة ومنها العلوم والصنائع، فحالوا بينهم وبين (أسباب الحضارة ومجاراة الأمم الراقية في مدنيتها وعلومها وصناعتها).
تحولت تركيا عند سقوط نظام الخلافة قبل قرن لدولة مدنية فليس لأحد أن يتفرد بالسلطة باسم الله، وكان هذا القرار هو قمة التطورات التاريخية التي حدثت منذ العام 1908م من تحديد سلطة الخليفة وحصرها في الجانب الروحي وفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، لتأتي جماعات إرهابية وميليشيات طائفية وشخصيات مهووسة بالزعامة والوجاهة مريضة بداء السلطة والشهرة من أجل إعادة زمن التبعية والشمولية الدينية والولايات والحرملك والسبايا والغنائم.
فكرة الحاكمية لله بدأها الخوارج واقتبسها الخلفاء الأمويون والعباسيون الذين استخدموها لتبرير مظالمهم وتوطيد سلطانهم، وبهذا المنطق سارت الأغلبية الساحقة من الحكام تحت مسمى (الخلافة) بمسيرة استبداد ديني عصفت بالأساس الإسلامي الأول للحكم وهو العدل وبالثاني وهو الشورى، وصولًا لتحدث هذا المصطلح أولًا في الهند على يد أبو الأعلى المودودي لتكفير الخصوم السياسيين وثانيًا في مصر على يد سيد قطب الذس نسج على منواله لنفس الغرض.
صفة الرشد في مصطلح (الخلافة الراشدة) انصبت على رشادة شخص الخليفة ومستويات عدله، أما في العصور المتأخرة فلا يتوفر هذا الشخص الذي يثق الناس في ورعه ليستأمنونه على كل شيء ويفوضونه في الحكم تفويضًا مطلقًا ويضعون في يده كل السلطات دون خوف من أن يستغلها إعتمادًا على صلاحه الذاتي وورعه وخوفه هو من الله.
تلك كانت فكرة (الخلافة الراشدة) وتدعى أيضًا (خلافة النبوة) لكونها فقط التي أعقبت مرحلة النبوة، وهي سلطة بسيطة ليست مركبة؛ تعتمد على حاكم جرى اختياره لتقواه وأمانته وكونه أفضل الأحياء في هذا الجانب، وقد قبل هو أن يُحاسب أمام الله حيث لا تملك الرعية محاسبته فالمراقبة والمحاسبة حينئذ أخروية غيبية لا دنيوية.
تلك الفكرة الأولية البسيطة في الحكم لا تملك الإجابات عن إشكاليات معقدة طرأت نتيجة التطور واختلاف طبيعة عصر عن عصر؛ فماذا عن طريقة العزل، وما هو المخرج إذا وقع خلاف على شخص الحاكم أثناء فترة حكمه؟ وأين النصوص الدستورية المنظمة لهذه الحالة تفاديًا للفتنة وسفك الدماء، وأيضًا النصوص المنظمة لعمل المعارضة السياسية وحدودها؟ وكيف يتم تداول السلطة بشكل سلمي حتى لا يتفاقم الخلاف السياسي ويؤدي إلى الاحتراب الأهلي؟
لقد أدى عدم استحداث ضمانات دستورية وقيود على سلطات الحاكم (ما يعني تطوير الشكل الأولي البسيط من الحكم).. أدى إلى حدوث الانقلاب إلى المُلك الوراثي الاستبدادي الذي أعطوه عنوان (الخلافة) بعد صراعات دموية وحروب أهلية.
تلك مرحلة فاصلة بين عهدين؛ الأول: حقبة فرض الاستقرار بالحاكم الراشد وسطوة عدله وعدالته الذاتية ورقابته هو لربه، والثاني: حقبة فرض هذا الاستقرار بسطوة القوة والعصبية والقهر وحظر التعددية والمعارضة السياسية في الدول الأموية والعباسة والعثمانية، فكان أن حدث الانتقال إلى التوريث والإستبداد وإضفاء القداسة الدينية على الحاكم.
قبل التوصل حديثًا (بعد سقوط نظام الخلافة في العام 1914م) للاتجاه الثالث في النظم السياسية كمسار أقوم وأكثر اتساقًا مع القيم الإسلامية العليا في الحكم من شورى وحريات ومساواة أمام القانون؛ ويتجسد هذا الاتجاه في الفصل بين السلطات في نظم الحكم الحديثة وتنظيم عمل المعارضة السياسية من خلال تشكيل أحزاب تنافس على السلطة وتراقب أداء الحاكم ووضع النصوص الدستورية التي تنظم عملية عزل الحاكم إن اقتضت الحاجة وانتقال السلطة بشكل سلمي.
هذا هو الضامن الوحيد في العصر الحديث لعدم الوقوع في حالة الفراغ الدستوري بما تنطوي عليه من مخاطر تهدد وحدة الأمة واستقرار المجتمع التي حدثت في نهايات ولاية الخليفة الثالث التي سببت أحداث الفتنة الكبرى.
لن يوجد مستوى ورع وأمانة أبو بكر أو عمر وعثمان وعلي، فلزم تمكين الشعب من المحاسبة والمراقبة استنادًا إلى معايير الحرية السياسية، وهذا يتيح للشعب من خلال مؤسسات الدولة الرقابية والقضائية والتشريعية رقابة الحاكم ومحاسبته، والعزل إن اقتضى الأمر مع وضع دستور ينظم تلك المسألة، تلك هي القصة باختصار وتكثيف.
أتي في مصر وإيران وتركيا وأفغانستان والعراق ولبنان وإندونيسيا وكل بقعة إسلامية وعربية مهووسون بالسلطة بعد هذا التطور ومرور كل هذا الوقت دون أدنى استحقاق ودون امتلاك كفاءة لإدارة شؤون ولو قرية صغيرة، وبدون أن يطلعوا على جوهر الدين وحقائق التاريخ، ليهاجموننا ويعتدون على حدودنا ويقتلون زهرة شبابنا، لأجل فكرة خبيثة ليس لها أي أساس من المنطق أو إمكانية التطبيق.
جربوا في الأمة على مدى قرن منذ سقوط الخلافة إلى اليوم ووصلوا إلى السلطة وحملوا السلاح وانخرطوا في مواجهات فتسببوا للأمة في كوارث ونكبات، ذلك لأنهم بنوا على تصورات باطلة سقيمة لا على أسس متينة من الفهم والتعمق والمعرفة، وفقط كانوا يحلمون بمنصب يحكمون فيه باسم الإله دون حسيب أو رقيب ليتسنى لهم فعل ما يشاءون من نهب وسلب وإشباع أهواء ونزوات ونيل مال وسلطة ونفوذ ووجاهة، وفي نفس الوقت يضمنون عدم وجود فضاء سياسي دستوري تعددي مفتوح يكشف ضحالتهم وجهلهم وضآلتهم العلمية والإدارية، ويضمنون عدم وجود أجهزة رقابة وقضاء تحاسبهم وتعاقبهم على جرائمهم وتجاوزاتهم.
حدث ما حدث خلال قرن (1924- 2024م) ساده وطغى عليه التخبط والتقدم خطوة والرجوع خطوات والتوقف والجمود مرات، والنتيجة والمآل نراه جميعًا اليوم بما لا يحتاج إلى وصف، بعد أن وضح للجميع من واقع التجربة أنها كانت مجرد شعارات فارغة وأن لا شيء هناك ذا بال فيما يخص الفعل الحضاري والانتقال إلى مصاف العظماء، فقد جرنا هذا التيار إلى الحضيض وإلى حضيض الحضيض بين جوعى وقتلى ومشردين ونازحين ولاجئين ومتصارعين ومذلولين ونائمين في العراء ومفقودين ومدفونين تحت الأنقاض، وبقيتنا عاجزون عن فعل شيء، وأوباش العالم وعتاته يتناقشون فيما بينهم ويتخيرون بين إما انتهاز الفرصة والإجهاز علينا والانتهاء من كل شيء سريعًا خلال هذه الجولة، أم يكتفون هذه المرة بهذا القدر على أن يواصلوا خلال نكبة أخرى قادمة؟
السؤال: أما كانت تغني المعرفة الوافية بهذا الملف الخطير عن سنوات وعقود طويلة قضتها الأمة دون أن تضع حدًا لهذا العبث وتحيد هذا الاتجاه الذي زعم بناء خلافة فأشعل خلافات وصراعات وزعم استعادة أمجاد وعزة فتسبب في هزائم ونكبات، جانبًا لتمضي في طريق حيويتها ونهوضها وقوتها وتماسكها دون عوائق وعقبات؟