إعداد: أحمد التلاوي
من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الكثير من “المحللين” ومتابعي الأخبار، وصولاً إلى مستوى عوام الناس، النظر إلى الحَدَث السياسي، وبخاصة الأحداث الكبرى، بمعزل عن ارتباطاته بأحداث أخرى، تصنع تطوراته ويصنع تطوراتها؛ حيث سِمَة الظاهرة الإنسانية بشكل عام، الترابط والتشابك والتأثير المُتبادَل.
وفي صراع الأمم والدول كبرى القوية على النفوذ والمصالح، والتدافع المتبادل بينها؛ بكل تأكيد، فإن التطورات والأزمات الكبرى، تتشابك مع بعضها البعض، على انتشار مصالح وعناصر تأثير هذه الدول.
في هذا الإطار، لا يمكن بحال فصل التطورات العميقة الأخيرة التي وقعت في سوريا، عن الكثير من التطورات الأخرى، وعلى رأسها الحرب في أوراسيا، والتي تشهد في الوقت الراهن تصعيدًا كبيرًا قد ينذر بخطر أكبر، مع تطوير الروس والأوكرانيين على حد سواء لنوعيات الصواريخ التي يقصف كل طرف بها الآخر، وكذلك نوعية الأهداف.
في حقيقة الأمر، وقبل مناقشة أي شيء؛ فإنه من الضروري الإشارة هنا، إلى أن أساس التصعيد في الحرب في أوراسيا، أو “قلب العالم” كما أطلق عليها عالم الجغرافيا السياسية البريطاني السير هالفورد ماكيندر، يعود إلى سياسات الإدارة الأمريكية الديمقراطية الراحلة، والتي تريد ترك الكثير من الفِخَاخ لإدارة الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب.
فكان القرار بإعطاء الأوكرانيين الضوء الأخضر لاستخدام نوعيات متطورة من الصواريخ الأمريكية والبريطانية بالتبعية، في قصف قلب الأرض الروسية، بخلاف القيود التي كانت موضوعة على السلاح الغربي الممنوح لأوكرانيا طوال سنوات الحرب الماضية.
بين سوريا وأوكرانيا.. خط قتال رئيسي
وربما هنا من الضروري أنْ نقول إن الرابط بين الأزمة الروسية الأوكرانية والأزمة السورية، حاضر منذ بداية الحرب في أوكرانيا؛ حيث إن روسيا اتهمت، وقدَّمت أدلة على ذلك أمام مجلس الأمن، بشأن تسرب أسلحة غربية من تلك الممنوحة إلى أوكرانيا، إلى الفصائل الإرهابية المسلحة التي كانت متمركزة في شمال غرب سوريا آنذاك، في مقابل ظهور مرتزقة سوريين في أوكرانيا.
وهذا الأمر كان محل اهتمام أجهزة الاستخبارات الأمريكية على وجه الخصوص، وبالتحديد فيما يتعلق بالأسلحة الغربية؛ حيث ارتبط الأمر أولاً بالفساد المستشري في المؤسسة الأمنية والعسكرية الأوكرانية.
بالإضافة إلى ذلك، هدد هذا الأمر الترتيبات المتعلقة بالأوضاع في سوريا نفسها، والتوازنات التي كانت قائمة واستُقِرَّ على أنْ تظل على ما هي عليه، لتفادي تصعيد جديد بين روسيا والغرب هناك، كذلك مع تهديد الأسلحة الغربية المتطورة التي وصلت إلى الفصائل المسلحة في سوريا لأمن إسرائيل.
هنا يظهر العامل الإسرائيلي في الحرب الأوكرانية، التي تكشَّفت في الآونة الأخيرة عن صور عديدة من التصعيد تؤكد كافة ما ذهبت إليه الدراسات السياسية والتقديرات التي من أنها أهم منطقة في العالم، وأن تطوراتها تحكم سياقات حركة التاريخ السياسي لهذا العالم وتطوره، وذلك بناء على خبرات التاريخ؛ حيث يُكتَب تاريخ أوروبا والشرق الأوسط من خلال أثر الهجرات التي وفدت من أقاصي آسيا إلى هذه المنطقة.
كانت إسرائيل منذ البداية منخرطة في الحرب الروسية الأوكرانية لصالح أوكرانيا، وشمل الدعم الإسرائيلي للحكومة الأوكرانية، معلومات استخبارية واستشارات عسكرية، بالإضافة إلى معدات عسكرية وذخائر.
وهناك تقديرات تشير إلى أن روسيا لهذا السبب، كانت أحد أبرز عوامل الدعم لعملية “7 أكتوبر” التي قامت بها “حماس” وفصائل فلسطينية أخرى في إسرائيل، في ذلك التاريخ من العام الماضي 2023م، وكانت السبب في الحرب المدمرة التي اندلعت في غزة منذ ذلك الحين، وقادت تداعياتها إلى ذلك التفاعل الانفجاري المتسلسل الذي شمل لبنان ثم سوريا، بما حقق ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بداية الحرب على غزة، من أنها “حرب مفصلية” سوف تقود إلى تغيير الشرق الأوسط بالكامل، وهو ما حدث!
أي أن روسيا ليست فحسب كانت المستفيد الأول من الحرب بعد انشغال الولايات المتحدة والغرب الأوروبي بالحرب في غزة، سياسيًّا وعسكريًّا على حساب التركيز على جبهة أوكرانيا، وإنما كانت روسيا في الأصل مفتاح استدراج “حماس” لقرار الطوفان!
حرب عالمية جديدة والعودة إلى القصة السورية
في هذا الإطار، ليس من قبيل المبالغة لو قلنا إن الحرب في أوراسيا هي حرب عالمية بالفعل؛ حيث إنها منذ البداية استقطبت كامل جهد المعسكرَيْن؛ الشرقي والغربي، وانخرطت فيها بالفعل قوات ومستشارين من دول عدة من أطراف الأرض، بما فيها إيران وكوريا الشمالية في الجانب الروسي، وإسرائيل وبريطانيا في الجانب الأوكراني؛ حيث كان لبريطانيا بالفعل عناصر من الاستخبارات العسكرية على الأرض في الأشهر الأولى للحرب.
أضِف إلى ذلك، فيلق “المتطوعين” الأجانب – مرتزقة بالمعنى الدقيق – الذي تم تشكيله بمعرفة بريطانيا والولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، لدعم الجيش الأوكراني في بدايات الحرب، في فبراير 2022م.
كل ذلك، مع الحديث الدائم في روسيا عن استخدام الأسلحة النووية لحسم الحرب في أوكرانيا أو الرد على أي هجوم من حلف “الناتو”، وتغيير روسيا لعقيدتها العسكرية، وإستراتيجيتها النووية أكثر من مرَّة.
في المقابل، كان أول ما بدأ به الأمين العام الجديد لحلف “الناتو”، الهولندي مارك روته، عهده حتى من قبل توليه رسميًّا خًلَفًا للنرويجي يَنس ستولتنبرج – تصريحه في 27 يونيو بعد إعلان اختياره لهذا المنصب، بينما تولَّى المنصب رسميًّا في 31 أكتوبر – بالدعوة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي “العسكري” للاتحاد الأوروبي.
ثم، وقبل أيام، في أول خطاب علني له بعد توليه منصبه، دعا روته الذي كان رئيسًا لوزراء هولندا؛ إلى “تبني عقلية الحرب” على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، في أول إشارة من نوعها بهذا الوضوح؛ حيث كان “الناتو” قبلاً يؤكد دائمًا في بياناته الرسمية وتصريحات أمينه العام السابق، أنه لا يسعى للحرب مع روسيا.
في الحادي عشر من ديسمبر الجاري، وبعد ثلاثة أيام من الإطاحة بالأسد، نشرت صحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكية مقالاً افتتاحيًّا للكاتب الأمريكي ديفيد إجناتيوس، قال فيه إن الاستخبارات الأوكرانية قدَّمت دعمًا لم يذكر طبيعته أو حجمه للفصائل السورية المسلحة من أجل “إذلال روسيا” و”تقويض روسيا وحلفائها السوريين”.
وهي أقوال أكدتها تصريحات روسية رسمية الآن، وفي الأشهر الماضية من الحرب في أوكرانيا.
لكن المهم فيما ذكره إجناتيوس، أنها ليست المرَّة الأولى التي تقوم فيها الاستخبارات الأوكرانية بالعمل ضد المصالح الروسية في العالم؛ حيث ذَكَر الكاتب الأمريكي ذائع الصيت، والذي لديه الكثير من المصادر، بما في ذلك داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، أن أوكرانيا قدمت معلومات للمتمردين في شمال مالي، لنصب كمين لقوة تابعة لمجموعة “فاجنر” الروسية هناك.
وهذا ينقلنا إلى جبهة أخرى تكشف عالمية الحرب في أوكرانيا حاليًا، واتساع رقعتها.
صراعات القوى والنفوذ في فنائنا الخلفي الإفريقي
الحرب في أوكرانيا في الأساس بدأتها روسيا في 2014م، في إطار زمني بدأ قبل ذلك، وممتد إلى الآن ومستقبلاً، وهو صراع النفوذ مع القوى الغربية المنقسمة إلى معسكرَيْن، فرنسا، والمعسكر الأنجلو أمريكي، والسعي لاستعادة مناطق النفوذ القديمة للاتحاد السوفييتي السابق.
بدأ هذا كله بعد تولي فلاديمير بوتين، رجل الاستخبارات السابق، لمهام عمله كرئيس لروسيا في العام 2000م؛ حيث كان أول ما بدأ به، هو استعادة السيطرة الاستخبارية لروسيا في مناطق الظهير الجيوسياسي الحيوي لروسيا، وهي أسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، ونجح في ذلك إلى حد كبير.
ثم كانت معركة استعادة تماسك الجبهة الداخلية، وكانت الأزمات “المُمَوَّلة” بمختلف معاني التمويل؛ السياسي والعسكري والتنظيمي قبل المالي، في القوقاز؛ في الشيشان وداغستان على رأس أولوياته في هذا الصدد، ثم الخروج بعد ذلك لملاقاة أعداء بلاده خارج حدود بلاده.
وكان هدف بوتين الأساسي هو إقامة جدار حديدي ولكن بمفهوم جديد، يقوم على تصوره الجديد لهوية روسيا الأوراسية، وهو المفهوم الذي أرساه القوميون الروس أو “حركة البِيض” التي ظهرت في منتصف التسعينيات، ويعتمد على مناطق الكثافات الروسية في الدول المجاورة.
فكان تحالفه الإستراتيجي مع بيلاروسيا أو روسيا البيضاء، ثم الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بعد الحرب الروسية الجورجية في العام 2008م، ثم غزو القرم وضمها من أوكرانيا في العام 2014م، قبل أنْ يبدأ بوتين الحرب العالمية الحالية في أوكرانيا.
من ضمن الجبهات المهمة للغاية التي تحركت فيها روسيا، وأشرنا إليها في تقارير سابقة، إفريقيا؛ حيث تواجه روسيا بنجاح كبير في السنوات الأخيرة النفوذَيْن؛ الفرنسي والأنجلو أمريكي، واستطاعت الإطاحة بأنظمة عديدة كانت تضمن الوجود العسكري الفرنسي أو الأمريكي هناك، أو كليهما معًا!
فتم طرد القوات الفرنسية والأمريكية بالفعل من بعض الدول، مثل تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، نظير وجود عسكري روسي مباشر، أو من خلال “فيلق الاستطلاع الإفريقي” الذي تأسس بديلاً لشركة “فاجنر” بعد تمرُّد مؤسسها وحليف بوتين السابق، يفجيني بريجوجين، الذي لقي مصرعه في “حادث” طائرة في 23 أغسطس 2023م.
وكان أحدث التطورات في هذا الملف، هو ما جاء في عدد من التقارير الصحفية عن نقل روسيا لبعض قواتها وعتادها العسكري من قواعدها في سوريا، في اللاذقية وطرطوس، إلى ليبيا.
نقل تلك القوات والعتاد، جاء بعد تقارير انتشرت – وهي صحيحة – وقالت إن تركيا ومرتزقتها ينوون أن تكون الخطوة التالية بعد سوريا، في ليبيا، لاستكمال مخطط الفوضى الهدَّامة الأنجلو أمريكي الذي أخذ ذروته في العام 2011م، وتصاعد بعد ذلك، بحيث تتحقق – كما حدث في سوريا بالضبط – مصالح الغرب، ومصالح تركيا التي تلعب دور مخلب القط الوظيفي للتحالف الغربي، بإحياء الإرث العثماني في مناطق عدة في العالم العربي، بدايةً من الموصل وحلب في العراق وسوريا، وصولاً إلى سواحل ليبيا والجزائر على البحر المتوسط، وسواحل السودان على البحر الأحمر.
ومن نافل القول أن التحركات الحالية، أو تلك التي تعتزم تركيا القيام بها في ليبيا، وفي بلدان إفريقية أخرى، مثل النيجر التي زارها وزير الخارجية الحالي ومدير الاستخبارات التركي السابق، هاكان فيدان، مع خلفه في هذا المنصب، إبراهيم قالِن، ووزير الدفاع يشار جولر في يونيو الماضي، تستهدف مصر بالأساس.
ومصر أصلاً منذ سنوات بعيدة، أدركت أن حماية مصالح أمنها القومي في الداخل، تبدأ من عند حدود إقليم الشرق الأوسط كله، شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، وكان من بين أهم ما تركِّز عليه الدولة المصرية وأجهزتها في هذا الإطار، انتشار الجماعات الإرهابية، بمختلف أطيافها التنظيمية، بما في ذلك التنظيم الدولي للإخوان الذي كان جزءًا رئيسيًّا سواء بشكل مباشر أو من خلال تركيا أو ذراعه السوري، فيما جرى في هذا البلد مؤخرًا.
وبطبيعة الحال، فإن التعامل مع مثل هذه المواقف المتباعدة والمعقدة الأطراف، لا يتم لبلد واحد أن يقوم به، وبالتالي؛ فإن القيادة السياسية والعسكرية المصرية، ومنذ سنوات بعيدة، بدأت في تنسيق مواقفها مع عدد من الحلفاء المحليين، والقوى الكبرى، وعلى رأسها روسيا.