fbpx
تقاريرسلايدر

“الإنترنت المظلم”.. لماذا ينبغي أن نخاف؟!

إعداد: أحمد التلاوي

إذا ما كان هناك شعار يصف ويلخِّص ما آلت إليه الأمور في عصرنا الحالي، عصر الرقميات والاستغلال المُكَثَّف للمعلومات، فهو أنه “لم يعُد هناك شيءٌ مؤكد”، وفي مثل هذه الأحوال؛ فإن أول شعور ينتاب الإنسان، هو أن يخاف.

والخوف هنا متعلق بغالب الأمور التي تهم الإنسان في حياته، حتى أمانه الشخصي؛ صار عُرضةً للخطر.. فمالُه الموجود في المصرف، معرَّض للسلب بمجرد ضغط أحدهم على بضعة أزرار.. قد يُتَّهم في جريمة لا شأن له بها، لمجرد أن أحدهم يجيد التعامل مع برامج الذكاء الاصطناعي (AI)، وبرامج معالجة الصور والأصوات.

ووفق مبدأ معروف في العلوم السياسية، يقول إنه كلما تزايدت المغانم، تزايدت المخاطر بنفس النسبة؛ فإن الدول والمجتمعات باتت أكثر عُرضةً لمخاطر جديدة أعمق وأكبر وأثرًا، منذ دخول العالم عصر الثورة الصناعية الثالثة، التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الرقميات، مثل الحواسيب الآلية والإنترنت، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

ثم تعمَّت هذه المخاطر، مع دخول العالم عصر الثورة الصناعية الرابعة التي تُعرَف اختصارًا بالـ(4IR)، والتي تعتمد على التقنيات الجديدة الأكثر حداثة، مثل تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء أو الـ(IoT).

وكلتاهما – الثورتان الصناعيتان الثالثة والرابعة – تعتمد أكثر ما تعمد على الاستخدام المكثف للمعلومات، في ظل التطورات الكبيرة التي لَحِقَت بالصناعات الرَّقْمية، سواء على مستوى الأجهزة والأدوات، ووسائط حفظ ونشر المعلومات، أو على مستوى برمجيات وطرق التشغيل.

ولكي ننظر إلى الأثر بدقة، ننظر إلى نموذج قائم أمامنا بالفعل، وهو كيف تفاقمت آثار الحروب بعد دخول العالم عصر الثورة الصناعية الثانية، الأكثر اعتمادية على الكهرباء وطاقة الوقود الأحفوري، والصناعات الآلية، فكانت – كما يقول المؤرخون –الحربان العالميتان الأولى والثاني، هما أولى الحروب الصناعية، ونجد إن عدد ضحايا كلا الحربَيْن، حوالي سبعين مليون إنسان، أي أكثر من كل ضحايا الصراعات البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ.

ولعل أغرب ما يرتبط بعصر سطوة الرَّقْميات، أن العوالم الافتراضية صار لها أكبر الأثر على عوالم الواقع، بينما المفروض العكس، فرأينا أن انتخابات بلدان عظمى مثل الولايات المتحدة، على أكبر قدر من التطور التقني، يمكن التلاعب بها بواسطة برامج الحواسيب الآلية، وأنشطة في وسائط الإعلام الافتراضية، أو ما يُعرَف بـ”الإعلام الجديد” أو الـ”New Media”، ورأينا فوضى عارمة ضربت إقليمًا كاملاً، وهو الشرق الأوسط، بمجرد التلاعب بالصور والمعلومات على منصات التواصل الاجتماعي!

وخلال العقود الأربع الماضية، ظهرت الكثير من المصطلحات المرتبطة بهذه الأمور، ومن بينها ما نحن بصدده ها هنا، وهو مصطلح “الإنترنت المظلم” أو “The Dark Web”.. فما هو “الإنترنت المظلم”؟، وما هي مخاطره؟، ولماذا اهتمت به الحكومات في إطار اهتمامها بما يعرف بالأمن السيبراني؟

التعريف بالمصطلح

يعتبر مصطلح “الإنترنت المظلم”، مصطلح حديث العهد نسبيًّا في مجال الشبكة العنكبوتية؛ حيث ظهر قبل ما يقرب من عشر سنوات فقط، وهو محتوى أو موقع على شبكة الإنترنت العالمية (WWW)، ولكنه يحتاج إلى برمجيات وضبط خاصَّيْن، وتفويض خاص للدخول إلى هذا الموقع، والحصول على المحتوى الموجود فيه، كما أن الشركات المستضيفة تسمح بإصدار الموقع ونشر المعلومات عليه، بدون الكشف عن هوية الناشر أو موقعه.

ويُعتَبَر يشكل الويب المظلم جزءًا مما يُعرَف بـ”الإنترنت العميق” أو الـ”The Deep Web”، وهي المواقع لا تُدرَج في محركات البحث، لأنها غالبًا ما تكون عبارة عن منصات أو أسواق غير تقليدية أو غير قانونية، تقدم مجموعة من المنتَجات أو الخدمات غير المشروعة في الغالب، مثل صناعة وتجارة الأسلحة والمخدرات، والأدوية الممنوعة، وتجارة الأعضاء البشرية، وكذلك السلع المقَلَّدة، وبطاقات الائتمان وبطاقات الهوية وجوازات السفر المسروقة، أو خدمات اختراق البيانات الشخصية والبرمجيات الضارة بشكل عام، وتزوير الوثائق، وغير ذلك.

كما أن هناك ما يُعرَف بـ”البوتات الآلية” “Botnets”، هي شبكة من الحواسيب الخاصة التي تحمل برامج ضارة، ويتحكم بها مجموعة غير معروفة من الأشخاص بطبيعة “الإنترنت العميق”، وتقوم بأعمال إلكترونية غير قانونية، بما في ذلك الابتزاز والاحتيال، وغيرها.

كما تُعتَبر العملات الرَّقْمية، والتي أشهرها الـ”بيتكوين”، جزءًا من هذا العالم؛ حيث يلتقي حرفيًّا، العالمان، الافتراضي والرقمي.

ولكن هنا خطأ شائع بالخلط بين “الإنترنت المظلم” و”الإنترنت العميق”، بينما الأول جزء فقط من الثاني، وكلاهما يُعرَف في بعض الأوساط التقنية، إلا أن “الإنترنت المظلم” أو “أرض الخدمات المخفية” كما يُطلَق عليه في بعض الأوساط التقنية والأمنية، أكثر تأمينًا وخصوصية.

وعلى غرار برنامج الـ”VPN” الذي يمكن من خلاله الدخول إلى المواقع المحجوبة في بلد ما، فإن هناك تقنيات أو خدمات يمكن بواسطتها الدخول إلى المواقع التي هي جزء من “الإنترنت المظلم”، مثل خدمة “Tor” و”I2P”، ولكن الأولى هي الأكثر انتشارًا.

يطرح بعض أصحاب هذه المواقع مبررات مثل توفير حرية التعبير عن الرأي والحق في الخصوصية، لإطلاق مواقعهم بهذا النمط، إلا أنها ترتبط كما رأينا – وسوف نرى تفصيلاً – بالكثير من المخاطر.

المخاطر المرتبطة بالإنترنت المظلم

كانت بدايات مواقع التواصل الاجتماعي، وكان أولها “Second Life” و”Facebook”، تبدو لأهداف بسيطة، مثل التعارف، وتبادل الآراء، وحتى أنها كانت لمجتمعات محددة لا تسمح لمَن ليسوا منها بالدخول إليها، فموقع “فيسبوك” في الأصل كان لطلاب جامعة “هارفارد” فحسب.

ثم فوجئ العالم بتحوُّل مثل هذه النوعية من المنصات التي بدأت “لطيفة” و”خفيفة” إلى واحدة من أسوأ أدوات نشر المعلومات الزائفة، والتحريض، مما حوَّلها لسنوات طويلة إلى أداة لنشر الفوضى، وجزءًا مهمًّا من حروب الجيل الرابع (GW4)، التي تعرَف بـ”الحرب الَّلامتماثلة” أو الـ”Asymmetric Warfare”، والتي تعني أن الدولة تواجه دولة خصمًا غير متماثل أو غير مضاهٍ لها في طبيعته، مثل الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية المنظمة.

ومن بين أدوات هذه النوعية من الحروب، الحرب النفسية التي تتم من خلال الإعلام والتلاعب بالعقول بمختلف الأدوات، والتي من بينها وسائل الإعلام الجديد الرَّقْمية؛ حيث تقل الرقابة، أو تكاد تنعدم تقريبًا، كما لا يمكن ممارسة أي شكل من أشكل السيطرة عليها.

وليس من قبيل الصدفة أو سوء الاستخدام أن منصات التواصل الاجتماعي كانت ولا تزال جزءًا من هذه الفوضى، فعندما قررت بعض الأطراف الأمريكية الآتية من خلف مؤسسات الحكم العميقة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كانت معركة السيطرة على موقع “تويتر” الذي غيَّر الملياردير ورجل التقنية والصناعة الأمريكي إيلون ماسك، اسمه عندما اشتراه، إلى “X”، وقام بوضع الكثير من القيود والضوابط على المحتوى المنشور.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن شركة “ميتا” التي تملك موقع “فيسبوك” و”يوتيوب” و”واتساب”، وغيرها من مواقع وسائل التواصل الاجتماعية المعروفة، قد قامت بتحويل أنشطتها إلى تقنيات “الويب المظلم” تحت مبرر “معالجة المشاكل المرتبطة بالمنصات التقليدية”، ومواصلة خدماتها في جميع مجالات الشبكة العالمية.

والتعامل من خلال مواقع “الإنترنت المظلم”، غير مسموح استخدامه في مصر، ولكن هناك فنيون متخصصون، محترفون في التعامل مع شبكة الإنترنت والبرمجيات الرَّقْمية، ويستخدمون أساليب معقدة للتمكُّن من الدخول إلى هذه المواقع.

ومن دون الدخول في مصطلحات فنية معقدة، تستخدم مواقع “الإنترنت المظلم” أسماء وامتدادات خدمات “Tor” المخفية.

وبحسب متخصصين في هذا المجال، ومنهم ديف بيسيتيلُّو “Dave Piscitello”، الذي يعمل في شركة “ICANN” المتخصصة في خدمات الإنترنت، فإن القيم التي تتكون منها عناوين هذه المواقع، تكون دائمًا من 16 حرفًا، وتنتهي بأحرُف تحدد نطاق المستوى الأعلى منها، والذي ينتهي دائمًا بامتداد معين هو “onion.”، والذي يماثل النهاية المعتادة التي يعرفها الجمهور العادي المستخِدم للإنترنت، مثل “دوت كوم” “com.” و”دوت نت” “net.”.

وبهذا، يمكن لأي جهاز حاسب يقوم بتشغيل برنامج أو خدمة “Tor” أن يتعامل مع خدمة مخفية من خدمات “الإنترنت المظلم”.

وقد انتبهت الحكومة المصرية، وحكومات العالم بشكل عام، إلى مخاطر مثل هذه النوعية من التقنيات، وبدأت في تبني منظومة من الآليات للتعامل معها، بما في ذلك تشديد العقوبات على جرائم المعلوماتية، وتحسين مستوى التقنيات المستخدَمة في رصد وتتبُّع المتعاملين مع هذه المواقع، أو اختراقها أمنيًّا من خلال عناصر من الشرطة وأجهزة الأمن، وغير ذلك من الأدوات التي تتعامل مع “الأمن السيبراني” أو الـ”Cyber Security”.

التوعية بجانب المكافحة الأمنية

انتبهت جهات أخرى بخلاف أجهزة الأمن إلى منظومة المخاطر واسعة الانتشار المرتبطة بهذه النوعية من المواقع والتقنيات المرتبطة بها، وبخاصة الأفكار الهدامة، بما فيها التطرف الديني، والذي هو أساس ظاهرة الإرهاب المدمرة.

ولذلك شاركت هذه الجهات في جهود المواجهة بالأدوات الملائمة لها، ومنها الإعلام، فعلى سبيل المثال، أصدر “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف”، في العشرين من مايو الماضي، بيانًا في صورة تقرير تفصيلي عن مخاطر “الإنترنت المظلم”.

تقرير “مرصد الأزهر” بعد أن استعرض المخاطر العامة على الأمن المجتمعي من جرَّاء هذه النوعية من الأنشطة التي تتم من خلال مواقع “الإنترنت المظلم”، على النحو الذي أشرنا إليه، تناول بشيء من التفصيل

كيفية استغلال التنظيمات المتطرفة لـ”الإنترنت المظلم” في إدارة أنشطتها الهدَّامة، ومنها نشر المحتوى المتطرف، وخطاب الكراهية، والدعوات إلى العنف، والدعاية الإرهابية.

ونبَّه التقرير إلى مخاطر أمنية مرتبطة بذلك، مثل عمليات تجنيد أتباع جدد للتنظيمات الإرهابية، وحتى تشكيل خلايا إرهابية جديدة، وتوجيه عناصرها لتنفيذ عمليات تخريب، وشراء الأسلحة والمتفجرات؛ حيث – كما تقدَّم – من بين أكثر أنواع التجارة المحرَّمة على منصات “الإنترنت المظلم”، تجارة الأسلحة.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنه حتى الخبراء الأمنيين، يرون أن المكافحة الأمنية، ليست هي السبيل الوحيد لذلك؛ حيث من بين أهم آليات مواجهة مثل هذه النوعية من الأنشطة الهدَّامة، التوعية، وبخاصة بين فئات الناشئة والشباب.

والوعي لا يتم فقط من خلال الأنشطة الإعلامية، وإنما أيضًا من خلال التعليم، والأنشطة الثقافية المختلفة.

أيضًا من الضروري دعم البحث العلمي في مجال الرَّقْميات، بدلاً من الاعتماد على الآخرين الذين ربما لا يقدِّمون الأفضل أو الأحدث، وبالتالي؛ تكون البرمجيات والأدوات التي يقدمونها في مجال الرصد والتتبُّع، غير فعَّالة بالقدر الكافي.

الأهمية الاقتصادية لـ”الأمن السيبراني”

برغم أهمية التوعية، فإن هذا لا ينفي – وهذا ما تقوم به الحكومة في الوقت الراهن بالفعل – من جهود أمنية مباشرة، سواء في مصر، من خلال الأجهزة الإستراتيجية، والإدارات الأمنية المعنية بذلك في وزارة الداخلية، أو من خلال التنسيق والتعاون المشترك مع البلدان الأخرى في جهود رصد ومكافحة الأنشطة المدمرة التي تتم عبر هذه المواقع والمنصات المختلفة، وتنسيق الجهود الأمنية، في أكثر من إطار، من بينها “الأمن السيبراني”.

والحقيقة أن “الأمن السيبراني”، والذي يعني باختصار غير مُخِلٍّ حماية أجهزة الحواسيب والشبكات والتطبيقات والبرمجيات وكذلك البيانات والمعلومات من التهديدات الرقمية المحتمَلة، أوسع نطاقًا في اختصاصه وأهميته من الفكرة القريبة من الأذهان، مثل مكافحة الإرهاب والجاسوسية والأنشطة المماثلة؛ حيث يرتبط أيضًا بجهود الدولة في مجال التنمية الاقتصادية والمجتمعية.

فتأمين البيانات – كما أشرنا – أمر شديد الأهمية للحفاظ على ثقة العملاء، وتقديم صورة سليمة للشركات الأجنبية لكي تأتي للعمل في مصر، وهو ما يعني أن “الأمن السيبراني” هو أحد أهم أدوات الدولة في جلب الاستثمارات الأجنبية.

فالشركات الكبرى العملاقة التي لديها ما تقدمه من منافع للاقتصاد القومي، شديدة الحرص على سرية بياناتها، والمعلومات المرتبطة بأنشطتها ومشروعاتها، والتجسس الاقتصادي معروف في العالم أجمع، وكما تقوم به الدول، تقوم بها الشركات الكبرى إزاي بعضها البعض، من خلال إدارات متخصصة تمارس أعمال الاستخبارات الاقتصادية على أوسع نطاق.

بل إن صحفًا اقتصادية كبرى مثل الـ”إيكونوميست” البريطانية، كانت سبَّاقة في هذا المجال منذ عقود طويلة؛ حيث تقدم منذ العام 1946م، من خلال إدارة متخصصة أنشأتها آنذاك، خدمات الاستخبارات الاقتصادية، القائمة على جمع وتحليل المعلومات الدقيقة للعملاء نظير أجر مدفوع، كشكل من أشكال الاستشارات المبنية على أسس أكثر دقة.

وبالتالي؛ فإن نجاح خطط الدولة التنموية في مجالات الأنشطة الكبرى، مثل الصناعة والطاقة والنقل وتجارة التجزئة، لا يمكن لها أنْ تنجح من دون أنْ تحوز ثقة الشركات الكبرى والحكومات التي تسعى لاستقطابها، من أنها – أي الدولة – سوف تقدم لها أعلى درجات الحماية لبياناتها ومعلومات أنشطتها، وكل ذلك مما يتم عبر الأدوات الرَّقْمية المختلفة، وهو صلب مفهوم “الأمن السيبراني”.

وفي الأخير؛ فإن الإنسانية – بشكل عام – ومصر جزء منها، مقبلة على فترة أكثر صعوبة وخطورة من العقدَيْن الماضيَيْن، واللذَيْن دخلت فيهما المجتمعات الإنسانية حالة من عدم اليقين، وبالتالي؛ فإننا ينبغي علينا البحث دائمًا عن أساليب وأدوات نضمن لنا النجاح في معركة صعبة للغاية، هي معركة بقاء بالمعنى الحرفي للكلمة؛ حيث الدول التي فشلت في فهم أبعاد هذه الصورة، سقطت، وربما لا تقوم لها قائمة بعد الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى